{ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } في العدد ، { يتنزل الأمر بينهن } بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى . قال أهل المعاني : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره ، فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها ، وينقلها من حال إلى حال . وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه . { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } فلا يخفى عليه شيء .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على كمال قدرته ، وسعة علمه فقال : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ . . } .
أى : الله - تعالى - وحده هو الذى خلق سبع سماوات طباقا وخلق من الأرض مثلهن ، أى : فى العدد فهى سبع كالسماوات .
والتعدد قد يكون باعتبار أصول الطبقات الطينية والصخرية والمائية والمعدنية ، وغير ذلك من الاعتبارات التى لا يعلمها إلا الله - تعالى - .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يقول - تعالى - مخبرا عن قدرته التامة ، وسلطانه العظيم ، ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقوله - تعالى - إخبارا عن نوح أنه قال لقومه : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً . . } وقال - تعالى - { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } وقوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أى : سبعا - أيضا - كما ثبت فى الصحيحين : " من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه مع سبع أرضين " .
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم ، فقد أبعد النجعة ، وأغرق فى النزع ، وخالف القرآن والحديث بلا مستند . .
وقال الآلوسى : الله الذى خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أى : وخلق من الأرض مثلهن ، على أن { مِثْلَهُنَّ } مفعول محذوف ، والجملة معطوفة على الجملة قبلها .
والمثلية تصدق بالاشتراك فى بعض الأوصاف ، فقال الجمهور : هى هنا فى كونها سبعا وكونها طباقا بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض ، وفى كل أرض سكان من خلق الله ، لا يعلم حقيقتهم أحد إلا الله - تعالى - .
وقيل : المثلية فى الخلق لا فى العدد ولا فى غيره ، فهى أرض واحدة مخلوقة كالسموات السبع .
ورد هذا القيل بأنه قد صح من رواية البخارى وغيره ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن . . " .
والذى نراه أن كون المثلية فى العد ، هو المعول عليه ، لورود الأحاديث الصحيحة التى صرحت بأن الأرضين سبع ، فعلينا أن نؤمن بذلك ، وأن نرد كيفية تكوينها ، وهيئاتها ، وأبعادها ، ومساحاتها ، وخصائصها . . . إلى علم الله - تعالى - .
وقوله : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } أى : يجرى أمر الله - تعالى - وقضاؤه وقدره بينهن ، وينفذ حكمه فيهن ، فالمراد بالأمر : قضاؤه وقدره ووحيه .
واللام فى قوله - تعالى - : { لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } متعلقة بقوله { خَلَقَ } . .
أى : خلق - سبحانه - سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، وأخبركم بذلك ، لتعلموا علما تاما أن الله - تعالى - على كل شىء قدير ، وأن علمه - تعالى - قد أحاط بكل شىء سواء أكان هذا الشىء جليلا أم حقيرا ، صغيرا أم كبيرا .
وبعد : هذا تفسير لسورة " الطلاق " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع الكوني الهائل ، فيربط موضوع السورة وتشريعاتها وتوجيهاتها بقدر الله وقدرة الله ، وعلم الله ، في المجال الكوني العريض :
( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، يتنزل الأمر بينهن ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) . .
والسماوات السبع لا علم لنا بحقيقة مدلولها وأبعادها ومساحاتها . وكذلك الأراضي السبع . فقد تكون أرضنا هذه التي نعرفها واحدة منهن والباقيات في علم الله . وقد يكون معنى مثلهن أن هذه الأرض من جنس السماوات فهي مثلهن في تركيبها أو خصائصها . . وعلى أية حال فلا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يصل إليه علمنا ، لأن علمنا لا يحيط بالكون ، حتى نقول على وجه التحقيق : هذا ما يريده القرآن . ولن يصح أن نقول هكذا إلا يوم يعلم الإنسان تركيب الكون كله علما يقينيا . . وهيهات . . !
فننتفع بإيحاء هذه الإشارة إلى تلك الحقيقة في مجالها النفسي ، وفي إنشاء التصور الإيماني الكوني الصحيح .
والإشارة إلى هذا الكون الهائل : ( سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) . . يهول الحس ويقف القلب وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد قدرة الخالق ، وسعة ملكه ، تصغر أمامه هذه الأرض كلها ، فضلا على بعض ما فيها ، فضلا على حادث من أحداثها . فضلا على دريهمات ينفقها الزوج أو تتنازل عنها الزوجة !
وبين هذه السماوات السبع والأرض أو الأرضين السبع يتنزل أمر الله - ومنه هذا الأمر الذي هم بصدده في هذا السياق . فهو أمر هائل إذن ، حتى بمقاييس البشر وتصوراتهم في المكان والزمان بقدر ما يطيقون التصور . والمخالفة عنه مخالفة عن أمر تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين ، ويتسامع به الملأ الأعلى وخلق الله الآخرون في السماوات والأرضين . فهي مخالفة بلقاء شنعاء ، لا يقدم عليها ذو عقل مؤمن ، جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات ، ويبين له هذا الأمر ، ليخرجه من الظلمات إلى النور . .
وهذا الأمر يتنزل بين السماوات والأرض ، لينشئ في قلب المؤمن عقيدة أن الله على كل شيء قدير ؛ فلا يعجزه شيء مما يريد . وأنه أحاط بكل شيء علما ؛ فلا يند عن علمه شيء مما يكون في ملكه الواسع العريض ، ولا مما يسرونه في حنايا القلوب .
ولهذه اللمسة قيمتها هنا من وجهين :
الأول أن الله الذي أحاط بكل شيء علما هو الذي يأمر بهذه الأحكام . فقد أنزلها وهو يحيط بكل ظروفهم وملابساتهم ومصالحهم واستعداداتهم . فهي أولى بالاتباع لا يلتفتون عنها أدنى التفات ؛ وهي من وضع العليم المحيط بكل شيء علما .
والثاني أن هذه الأحكام بالذات موكولة إلى الضمائر ، فالشعور بعلم الله واطلاعه على كل شيء هو الضمان لحساسية هذه الضمائر ، في شأن لا يجدي فيه شيء إلا تقوى الله العليم بذات الصدور .
وهكذا تختم السورة بهذا الإيقاع الذي يهول ويروع ، بقدر ما يحرك القلوب لتخبت وتطيع . فسبحان خالق القلوب ، العليم بما فيها من المنحنيات والدروب !
لا خلاف بين العلماء أن السموات سبع ، لأن الله تعالى قال : { سبعاً طباقاً }{[11175]} [ الملك : 3 ، نوح : 15 ] وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهن في حديث الإسراء ، وقال لسعد : «حكمت بحكم الملك من فوق سبع أرقعة »{[11176]} ، ونطقت بذلك الشريعة في غير ما موضع ، وأما { الأرض } فالجمهور على أنها سبع أرضين ، وهو ظاهر هذه الآية ، وأن المماثلة إنما هي في العدد ، ويستدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من غصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين »{[11177]} ، إلى غير هذا مما وردت به روايات ، وروي عن قوم من العلماء أنهم قالوا : الأرض واحدة ، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها ، وقر أن فيها عالماً يعبد كما في كل سماء عالم يعبد ، وقرأ الجمهور : «مثلَهن » بالنصب ، وقرأ عاصم : «مثلُهن » برفع اللام ، و { الأمر } هنا الوحي وجميع ما يأمر به تعالى من يعقل ومن لا يعقل ، فإن الرياح والسحاب وغير ذلك مأمور كلها ، وباقي السورة وعظ ، وحض على توحيد لله عز وجل ، وقوله تعالى : { على كل شيء قدير } عموم معناه الخصوص في المقدورات ، وقوله { بكل شيء } عموم على إطلاقه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ "لا ما يعبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء.
وقوله: "وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ" يقول: وخلق من الأرض مثلهنّ...
وقوله: "يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ" يقول تعالى ذكره: يتنزّل أمر الله بين السماء السابعة والأرض السابعة...
وقوله: "لِتَعْلَمُوا أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ" يقول تعالى ذكره: ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، ولكنه على ما يشاء قدير.
"وأنّ اللّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلّ شَيْء عِلْما" يقول جلّ ثناؤه: ولتعلموا أيها الناس أن الله بكل شيء من خلقه محيط علما، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. يقول جلّ ثناؤه: فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم عقوبته، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط أيضا بأعمالكم، فلا يخفي عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها. يوم تجزى كلّ نفس ما كسبت...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(يتنزل الأمر بينهن) معناه يتنزل الأمر بالتدبير من الله بين السموات وبين الأرضين، بحياة بعض وموت بعض، وغنى إنسان وفقر غيره، وسلامة حي وهلاك آخر، وتصريف الأمور على الحكمة لا يكون إلا من قادر عالم وهو معنى قوله (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير)...
وقوله (وإن الله قد أحاط بكل شيء علما) معناه إن معلوماته متميزة له بمنزلة ما قد أحاط به فلم يفته منه شيء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الأمر} هنا الوحي وجميع ما يأمر به تعالى من يعقل ومن لا يعقل، فإن الرياح والسحاب وغير ذلك مأمور كلها، وباقي السورة وعظ، وحض على توحيد لله عز وجل، وقوله تعالى: {على كل شيء قدير} عموم معناه الخصوص في المقدورات، وقوله {بكل شيء} عموم على إطلاقه...
أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السماوات والأرض، وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله: {أن الله على كل شيء قدير} من قبل ما تقدم ذكره {و قد أحاط بكل شيء علما} يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء، فتبارك الله رب العالمين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه {أَلَمْ تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] وقال تعالى {تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرْضُ وَمَن فِيهنَّ} [الإسراء: 44]. وقوله تعالى {وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي سبعا أيضا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الله} أي الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها، ثم أخبر عنه بما يدل على ذلك لأن الصنعة تدل على الصانع وعلى ما له من الصفات فقال: {الذي خلق} أي أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال البديع القريب {سبع سماوات} أي وإنهم يشاهدون عظمة ذلك ويشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام العلم كامل القدرة، ثم زاد على ذلك ما أنتم أعرف به فقال: {ومن الأرض مثلهن}... {لتعلموا} أي بهذا العالم الذي أوجده بتسوية كل واحد من القبيلين سبعاً كل واحدة بينها وبين الأخرى مسافة بعيدة مع الكثافة الزائدة وأنتم تعلمون أنه لا يفصل الجسم ولا سيما الكثيف عن آخر مثله إلا فاصل قاهر بقوة باهرة وقدرة ظاهرة وعلم شامل لما يحتاج إليه ذلك...
{أن الله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها {على كل شيء} أي من غير هذا العالم ممكن أن يدخل تحت المشيئة فإنه بمعنى مفعول من عالم آخر مثل هذا العالم، وأبدع منه وأبدع من ذلك الإبداع إلى ما لا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له لأنه لا فرق في ذلك بين قليل ولا كثير جليل أو حقير... {قدير} أي بالغ القدرة...
(وأن الله) أي الذي له جميع صفات الكمال {قد أحاط} لتمام قدرته {بكل شيء} مطلقاً، ولما أسند الإحاطة إليه سبحانه تعظيماً لها، بين جهتها بتمييز محول عن الفاعل فقال: {علماً} فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العلم بمصالحه ومفاسده فعاملوه معاملة من يعلم إحاطة علمه فيعلم أنه رقيب عليه فإذا طلقتم فافعلوا ما أمركم به لتسلموا في الدين وتسعدوا في الآخرة والأولى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإشارة إلى هذا الكون الهائل: (سبع سماوات ومن الأرض مثلهن).. يهول الحس ويقف القلب وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد قدرة الخالق، وسعة ملكه، تصغر أمامه هذه الأرض كلها، فضلا على بعض ما فيها، فضلا على حادث من أحداثها. فضلا على دريهمات ينفقها الزوج أو تتنازل عنها الزوجة! وبين هذه السماوات السبع والأرض أو الأرضين السبع يتنزل أمر الله -ومنه هذا الأمر الذي هم بصدده في هذا السياق. فهو أمر هائل إذن، حتى بمقاييس البشر وتصوراتهم في المكان والزمان بقدر ما يطيقون التصور. والمخالفة عنه مخالفة عن أمر تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين، ويتسامع به الملأ الأعلى وخلق الله الآخرون في السماوات والأرضين. فهي مخالفة بلقاء شنعاء، لا يقدم عليها ذو عقل مؤمن، جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات، ويبين له هذا الأمر، ليخرجه من الظلمات إلى النور.. وهذا الأمر يتنزل بين السماوات والأرض، لينشئ في قلب المؤمن عقيدة أن الله على كل شيء قدير؛ فلا يعجزه شيء مما يريد. وأنه أحاط بكل شيء علما؛ فلا يند عن علمه شيء مما يكون في ملكه الواسع العريض، ولا مما يسرونه في حنايا القلوب. ولهذه اللمسة قيمتها هنا من وجهين: الأول أن الله الذي أحاط بكل شيء علما هو الذي يأمر بهذه الأحكام. فقد أنزلها وهو يحيط بكل ظروفهم وملابساتهم ومصالحهم واستعداداتهم. فهي أولى بالاتباع لا يلتفتون عنها أدنى التفات؛ وهي من وضع العليم المحيط بكل شيء علما. والثاني أن هذه الأحكام بالذات موكولة إلى الضمائر، فالشعور بعلم الله واطلاعه على كل شيء هو الضمان لحساسية هذه الضمائر، في شأن لا يجدي فيه شيء إلا تقوى الله العليم بذات الصدور. وهكذا تختم السورة بهذا الإيقاع الذي يهول ويروع، بقدر ما يحرك القلوب لتخبت وتطيع. فسبحان خالق القلوب، العليم بما فيها من المنحنيات والدروب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الله...
فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله: {واتقوا الله ربكم} [الطلاق: 1] إلى هنا، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإِسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يُزاد تعريف الناس بهذا العظيم... والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذُكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده، فعليهم أن يتقوه، ولا يتعدوا حدوده، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه. وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض...
وقوله: {ومن الأرض مثلهن}... مماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى، أي أن خلْق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة...
وفي إفراد لفظ {الأرض} دون أن يُؤتى به جمعاً كما أُتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما...
واللام في قوله {لتعلموا} لام كي وهي متعلقة ب {خلق}. والمعنى: أن مما أراده الله من خلقه السماوات والأرض، أن يعلم الناس قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شيء. لأن خلق تلك المخلوقات العظيمة وتسخيرها وتدبير نظامها في طول الدهر يدل أفكار المتأملين على أن مبدعها يقدر على أمثالها فيستدلوا بذلك على أنه قدير على كل شيء لأن دلالتها على إبداع ما هو دونها ظاهرة، ودلالتها على ما هو أعظم منها وإن كانت غير مشاهدة، فقياس الغائب على الشاهد يدل على أن خالق أمثالها قادر على ما هو أعظم. وأيضا فإن تدبير تلك المخلوقات بمثل ذلك الإتقان المشاهد في نظامها، دليل على سعة علم مبدعها وأحاطته بدقائق ما هو دونها، وأن من كان علمه بتلك المثابة لا يظن بعلمه إلا الإحاطة بجميع الأشياء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواءً في هذا العالم أو العالم الآخر...
يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه (يتنزّل الأمر بينهنّ). وواضح أنّ المراد من «الأمر» هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (4) من سورة السجدة حيث تقول: (يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض). على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة. وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول: (لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً). كم هو تعبير لطيف، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان. ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر. نعم، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم» والذي يدير هذا العالم بأجمعه، لابدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان...