اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ يَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنَهُنَّ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عِلۡمَۢا} (12)

قوله : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } .

يدّل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة ، ولا خلاف في أن السماوات سبع بعضها فوق بعض بدليل حديث الإسراء وغيره ، وقوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } يعني سبعاً ، واختلف فيهن .

فقال الجمهور : إنها سبع أرضين مطبقاً بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كلِّ مكان من خلق الله .

وقال الضحاك : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أي : سبعاً من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها فوق بعض من غير فُتُوق بخلاف السماوات{[57122]} .

قال القرطبي{[57123]} : والأول أصحّ ؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره ، روى أبو مروان عن أبيه : «أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : " اللَّهُمَّ ربَّ السَّماواتِ السَّبعِ ومَا أظْللْنَ ، وربَّ الأرضينَ السَّبْعِ وما أقْلَلْنَ ، وربَّ الشَّياطينِ وما أضللنَ ، وربَّ الرِّياحِ وما أذررْنَ ، إنَّا نَسْألُكَ خَيْر هذهِ القريةِ وخَيْرَ أهْلِهَا ، ونَعُوذُ بِكَ من شرِّها وشرِّ أهلهَا ، ومن شرِّ مَنْ فيهَا " {[57124]} .

وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَن ظَلَمَ قِيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقه يَوْمَ القيامَةِ من سَبْعِ أرضينَ »{[57125]} .

قال الماوردي{[57126]} : وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا ولا يلزم فيمن غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز ، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان :

أحدهما : أنهم يشاهدون من كل جانب من أرضهم ، ويستمدّون الضياء منها ، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة . والثاني : أنهم لا يشاهدون السماء ، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه ، وهذا قول من جعل الأرض كرة .

وحكى الكلبي عن أبي صالحٍ ، عن ابن عباس : أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار ، وتظل جميعهم السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى ، احتمل أن يلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا يلزمهم دعوة الإسلام ؛ لأنها لو لزمتهم لكان النصُّ بها وارداً ، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بها .

قال بعض العلماء : السماء في اللغة عبارة عما علاكَ ، ففلك القمر بالنسبة إلى السماء الثانية أرض ، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض وكذلك البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء وبالنسبة إلى ما فوقه أرض ، فعلى هذا تكون السماوات السَّبع وهذه سبع سماوات وسبع أرضين .

قوله : { مِثْلَهُنَّ } . قرأ العامَّة : بالنصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على سبع سموات . قاله الزمخشري{[57127]} .

واعترض عليه أبو حيَّان{[57128]} بلزوم الفصل بين حرف العطف ، وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وهو مختص بالضرورة عند أبي علي .

قال شهاب الدين{[57129]} : وهذا نظير قوله : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً }[ البقرة : 201 ] عند ابن مالك ، وتقدم تحريره في سورة البقرة والنساء ، وهو عند قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } [ النساء : 58 ] ، { وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .

والثاني : أنه منصوب بمقدر بعد الواو ، أي : خلق مثلهن من الأرض .

واختلف الناس في المثليَّة .

فقيل : مثلها في العدد .

وقيل : في بعض الأوصاف ؛ فإن المثليَّة تصدق بذلك ، والأول المشهور .

وقرأ عاصم{[57130]} في رواية : «مثلُهنَّ » بالرفع على الابتداء ، والجار قبله خبره .

قوله : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } .

يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون نعتاً لم قبله . قاله أبو البقاء{[57131]} .

وقرأ أبو عمرو{[57132]} في رواية ، وعيسى : «يُنَزِّلُ » بالتشديد ، أي : الله ، «الأمْرَ » مفعول به . والضميرُ في «بَيْنَهُنَّ » عائد على «السَّماواتِ والأرضين » عند الجمهور ، أو على السماواتِ والأرض عند من يقول : إنها أرض واحدة .

وقوله : { لتعلموا } : متعلق ب «خَلَقَ » أو ب «يَتَنَزَّل » .

والعامة : «لتعْلَمُوا » بتاء الخطاب ، وبعضهم بياء الغيبة .

فصل في تفسير الآية

قال مجاهدٌ : يتنزل الأمرُ من السماوات السبع إلى الأرضين السبع .

وقال الحسنُ : بين كل سماءين أرض وأمر{[57133]} .

والأمر هنا الوحي في قول مقاتل وغيره ، وعلى هذا يكون «بَيْنَهُنَّ » إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها ، وبين السابعة التي هي أعلاها .

وقيل : الأمر هنا القضاء والقدر ، وهو قول الأكثرين ، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : { بَيْنَهُنَّ } إشارة إلى ما بين الأرض السُّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها .

وقيل : { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } بحياة بعض ، وموت بعض ، غِنَى قوم ، وفقر قوم .

وقيل : ما يُدَبِّرُ فيهن من عجيب تدبيره ، فينزل المطرُ ، ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال .

قال ابن كيسان : وهذا على اتساعِ اللغةِ ، كما يقال للموت : أمر اللَّهِ ، وللريح والسَّحاب ونحوهما .

قال قتادةُ : في كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره وقضاء من قضائه{[57134]} .

{ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، أي : من قدر على هذا الملك العظيم ، فهو على ما بينهما من خلقه أقدر من العفو ، والانتقام أمكنُ ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته ، { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا } ، فلا يخرج شيء عن علمه وقُدرته .

ونصب «عِلْماً » على المصدر المؤكد ؛ لأن «أحَاطَ » بمعنى «عَلِمَ » .

وقيل : بمعنى : وأن الله أحاط إحاطة .

ختام السورة:

روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ سُورَةَ { يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } ماتَ علَى سُنَّةِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »{[1]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[57122]:ينظر تفسير القرطبي (18/114).
[57123]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 18/115.
[57124]:تقدم.
[57125]:أخرجه البخاري 5/123، كتاب المظالم، باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2452) وطرفه في 3198، والبيهقي في السنن 6/99.
[57126]:ينظر: النكت والعيون 6/36-37.
[57127]:ينظر: الكشاف 4/561.
[57128]:ينظر: البحر المحيط 8/283.
[57129]:ينظر: الدر المصون 6/333.
[57130]:ينظر: المحرر الوجيز5/328، والبحر المحيط 8/283، والدر المصون 6/333.
[57131]:ينظر: الإملاء 2/1228.
[57132]:ينظر القراءة السابقة.
[57133]:ذكره السيوطي في"الدر المنثور" (6/464) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[57134]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/145) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/363) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.