فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ يَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنَهُنَّ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عِلۡمَۢا} (12)

{ الله الذي خلق } أي أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه ، على هذا المنوال الغريب البديع { سبع سموات } يعني بعضها فوق بعض ، قال النسفي : أجمع المفسرون على أن السموات سبع ، وقال الخطيب : لا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره { ومن الأرض مثلهن } في العدد يعني سبعا ، قرأ الجمهور مثلهن بالنصب على أنه عطف على سبع سموات ، قاله الزمخشري ، أو على تقدير فعل أي وخلق من الأرض مثلهن ، وقرئ بالرفع على الابتداء ، والجار والمجرور قبله خبره ، قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية ، واختلف الناس في المثلية وكيفية طبقات الأرض على قولين .

أحدهما : وهو قول الجمهور : إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض ، وفي كل أرض سكان من خلق الله ، وقال الضحاك : إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق ، بخلاف السموات ، قال القرطبي : والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه في البخاري والترمذي وغيرهما .

وفي صحيح مسلم :

" عن سعيد بن زيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين إلى آخر كلامه ( {[1592]} ) " .

" وفي الحديث لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع ، وما أقللن الحديث " ، وقد مضى في سورة البقرة قول الماوردي وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ، ولا نلزم في غيرها من الأرضين ، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ، ويستمدون الضياء منها ، قال ابن عادل : وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة ، والثاني أنهم لا يشاهدون السماء وأن الله خلق لهم ضياء يشاهدونه ، قال ابن عادل : وهذا قول من جعل الأرض كرويّة .

وعن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار ، وتظل جميعها السماء حكاه الكلبي عن أبي صالح عنه ، فعلى هذا إن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم ، واحتمل أن لا تلزمهم لأنها لو لزمتهم لكان النص بها واردا ، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بها مأمورا ذكره الخطيب في تفسيره ، وقال بعض العلماء : السماء في اللغة عبارة عما علاك فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى السماء الثالثة أرض ، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء ، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض ، فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبه سموات وسبع أرضين انتهى .

" وعن ابن عباس أنه قال له رجل : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } إلى آخر السورة ، فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر ؟ " أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير .

" وعنه في قوله : ومن الأرض مثلهن قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى " أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى ، قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ، وهو شاذ بمرة لا اعلم لأبي الضحى عليه متابعا .

{ وعنه قال : في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق } أخرجه ابن جرير الطبري من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى قال الحافظ في الفتح : هكذا أخرجه مختصرا وإسناده صحيح .

وقال ابن كثير : هذا وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله انتهى ، وتصحيح الحاكم له ليس بذاك قال السيوطي : ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي قال : إسناده صحيح ، لكن شاذ بمرة انتهى ، ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يصح الإسناد ويكون في المتن علة وشذوذ تقدح في صحته ، قاله القسطلاني ، وقال في البداية ؛ هذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات ونحوه ، قال السخاوي في المقاصد الحسنة : ومثله في تفسير روح البيان وزاد نقلا عن السيوطي أنه قال : يمكن أن يؤول على أن المراد بهم الذين يبلغون الجن عن أنبياء البشر ، ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه انتهى ونحوه في إرشاد الساري والحاصل أن الأثر المذكور وإن صح فهو موقوف شاذ ، والشاذ لا يحتج به كما قال الطيبي في الخلاصة وغيره في غيرها ولفظها ، والموقوف هو مطلق ما روي عن الصحابي من قول أو فعل متصلا كان أو منقطعا ، وهو ليس بحجة على الصحيح ، وقال النووي في شرح مسلم : الموقوف ليس بحجة على المختار عند الغزالي وهو الصحيح انتهى .

قال الخفاجي : الذي نعتقد أن الأرض سبع ولها سكان من خلقه يعلمهم الله تعالى انتهى ، وهذا اعدل الأقوال وأحوطها ، وقال النيسابوري : ذكر الثعالبي في تفسيره فصلا في خلق السموات والأرض وأشكالهم وأسمائهم أضربا عن إيرادها لعدم الوثوق بمثل تلك الروايات انتهى ، وما جاء عن كعب ووهب وأمثالهما في هذا الباب فكلها لا يعتد به لأنهم أخذوه من الإسرائيليات .

" وعن جابر بن عبد الله في حديث طويل يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ثم قال : يا محمد ما تحت هذه ؟ يعني الأرض قال : خلق ، قال فما تحت الأرض ؟ قال : الماء قال : فما تحت الماء ؟ قال : ظلمة قال : فما تحت الظلمة ؟ قال : الهواء ، قال : فما تحت الهواء ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : انقطع علم الخلائق أيها السائل ، فقال : صدقت أشهد أنك رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون من هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هذا جبريل " الحديث مختصرا أخرجه الحافظ ابن كثير بسنده ، وأخرجه ابن مردويه أيضا عند طوله ، وهذا الحديث يرد ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه إن كان قد صح قوله .

وبسط الكلام على هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها ، ويكفي الاعتقاد بكون السموات سبعا والأرضين سبعا كما ورد به الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ولا ينبغي الخوض في خلقهما وما فيهما فإنها شيء استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه . لا يحيط به أحد سواه ولم يكلفنا الله تعالى بالخوض في أمثال هذه المسائل والتفكير فيها والكلام عليها وبالله التوفيق .

" وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد ملك ، والثنية تسجل الريح ، والثالثة فيها حجارة جنهم ، والرابعة فيها كبريت جنهم الحديث بطوله " وتفصيله قال الذهبي : متعقبا للحاكم : هو حديث منكر ، قال بعض أهل العلم : لا ينبغي لأحد لأن يغتر بتصيحح الحاكم للأحاديث حتى ينظر في تعقبات الذهبي له ، أو كما قال ، وعن ابن عباس قال : سيد السموات السماء التي فيها العرش وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها .

{ يتنزل الأمر بينهن } مستأنفة أو صفة لما قبلها ، قرأ الجمهور يتنزل من التنزل ، ورفع الأمر على الفاعلية ، وقرئ ينزل من الإنزال ونصب الأمر على المفعولية والفاعل الله سبحانه ، والأمر الوحي ، وقيل : القضاء والقدر ، والضمير عائد على السموات والأرضين عند الجمهور ، أو على السموات والأرض عند من يقول إنها أرض واحدة قاله السمين ، قال المحلي في تفسيره : ينزل به جبريل من السماء السابعة إلى الأرض السابعة انتهى ، قال علي القاري : لم نجد هذا القول لغيره من المفسرين إذ غاية من فسر الأمر بالوحي قال في تفسير قوله : { بينهن } أي بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها ، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها انتهى ، قال سليمان الجمل : وهذا التوقف من القارئ مبني على أن المراد بالوحي وحي التكليف بالأحكام ، وليس بلازم لإمكان حمله على وحي التصرف في الكائنات ، وعبارة الخطيب والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله : { بينهن } إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن ، وينفذ حكمه فيهن انتهى .

وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق ؟ قال : نعم قال : فما الخلق ؟ قال : إما ملائكة أو جن قال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع ، وقال الحسن : بين كل سماءين أرض ، وأمر ، وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه . وقيل : يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض ، وغنى قوم وفقر قوم ، وقيل هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيأتها فينقلهم من حال إلى حال ، قال ابن كيسان : وهذا على مجال اللغة واتساعها كما يقول للموت : أمر الله ، وللريح والسحاب ونحوهما .

{ لتعلموا } اللام متعلقة بخلق أو بيتنزل أو بمقدر أي فعل ذلك لتعلموا { أن الله على كل شيء قدير } من غير هذا العالم يمكن أن يدخل تحت المشيئة { قدير } أي بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى ما لا نهاية له ، بالاستدلال بهذا العالم ، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له ، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير ، وجليل وحقير ، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت قاله الخطيب .

وفي حاشية سليمان الجمل هذا كله بالنظر للإمكان العقلي وهذا لا يخالف ما نقل عن الغزالي من قوله : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن معناه أنه قد تعلق علم الله في الأزل بأنه لا يخلق عالما غير هذا العالم ، وإن كان خلقه جائزا ممكنا ، فمن حيث تعلق العلم بعدمه صار غير ممكن لأنه لو وقع لخالف مقتضى العلم الأزلي ، فيلزم انقلاب العلم جهلا فصار إيجاد عالم آخر محالا عرضيا ، وإن كان ممكنا ذاتيا فهذا معنى قول الشيخ : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، أي لا يمكن أن يخلق الله عالما غير هذا العالم ، ونفي الإمكان هو الاستحالة فكأنه قال هو محال أن يخلق عالما غير هذا العالم ، وقد عرفت أن هذه الاستحالة عرضية لا ذاتية ، وبهذا نعرف سقوط ما نقل عن البقاعي هنا تأمل انتهى .

أقول : وهذا كله ليس بالنظر للإمكان العقلي فقط كما قال سليمان الجمل ، بل الكتاب العزيز والسنة المطهرة يدلان على عموم قدرته وكمال قوته على إيجاد كل شيء فيدخل فيه إيجاد مثل هذا العالم دخولا أوليا ، وإن لم يوجد على مقتضى العلم الأزلي ، وقول الغزالي عبارة ساقطة ونفس فلسفية لا يليق التفوه بمثلها ، وإن كان معناه صحيحا بالتأويل البعيد الفاسد ، والتوجيه البارد الكاسد ، ونظم الكتاب العزيز العالي يغني عن مثل عبارة كلام الغزالي .

{ وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان وانتصاب علما على المصدرية لأن أحاط بمعنى علم أو هو صفة لمصدر محذوف أي أحاط إحاطة علما ، ويجوز أن يكون تمييزا محولا عن الفاعل من غير لفظ الأول .


[1592]:رواه مسلم.