ثم أكد - سبحانه - هذه الحقيقة وهى كون الرسل من البشر فقال : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } .
والضمير فى { جَعَلْنَاهُمْ } يعود إلى الرسل ، والجسد مصدر جَسِد الدم يَجْسَدُ - من باب فرح - إذا التصق بغيره ، وأطلق على الجسم جسد ، لالتصاق أجزاءه بعضها ببعض ، ويطلق هذا اللفظ على الواحد المذكر وغيره ولذلك أفرد . أو هو أفرد لإرادة الجنس .
أى : وما جعلنا الرسل السابقين عليك يا محمد أجسادا لا تأكل ولا تشرب كالملائكة ، وإنما جعلناهم مثلك يأكلون و يشربون ويتزوجون ويتناسلون ويعتريهم ما يعترى البشر من سرور و حزن ، ويقظة و نوم . . . وغير ذلك مما يحسه البشر .
وما جعلناهم - أيضا - خالدين فى هذه الحياة بدون موت ، وإنما جعلنا لأعمارهم أجلا محددا تنتهى حياتهم عنده بدون تأخير أو تقديم .
قال - تعالى - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } .
لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر ؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء .
ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور .
وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .
وهنالك اعتبار آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته ؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية . وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .
{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين } نفي لما اعتقدوا أنها من خواص الملك عن الرسل تحقيقا لأنهم أبشارا مثلهم . وقيل جواب لقولهم { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } { وما كانوا خالدين } تأكيد وتقرير له فإن التعيش بالطعام من توابع التحليل المؤدي إلى الفناء وتوحيد الجسد لإرادة الجنس ، أو لأنه مصدر في الأصل أو على حذف المضاف أو تأويل الضمير بكل واحد وهو جسم ذو لون فلذلك لا يطلق على الماء والهواء ، ومنه الجساد للزعفران . وقيل جسم ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده .
وقوله تعالى : { وما جعلناهم جسداً } قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى ، ومنه قوله تعالى : { عجلاً جسداً }{[8200]} [ الأعراف : 148 ] . فمعنى هذا ما جعلناهم أجساداً لا تتغذى ، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي . والمعنى ما جعلناهم أجساداً وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو الملائكة ، ف { جعلناهم جسداً } على التأويل الأول منفي ، وعلى الثاني موجب ، والنفي واقع على صفته . وقوله تعالى : { لا يأكلون الطعام } كناية عن الحدث ، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا .
الجسد : الجسم الذي لا حياة فيه ، وهو يرادف الجثة . هذا قول المحققين من أيمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسدا } [ طه : 88 ] . وقد تقدم هناك ، ومنه قوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً } [ ص : 34 ] . قيل هو شِق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه ، أي ما جعلناهم أجراماً غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام ، وهذا رد لما يقولونه { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] مع قولهم هنا { هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] .
وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجساداً بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة .
وأما قوله : { وما كانوا خالدين } فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالاً بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم . فهذا وجه زيادة { وما كانوا خالدين } .
وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة { ما كانوا } تحقيقاً لتمكن عدم الخلود منهم .