قوله تعالى : { كدأب آل فرعون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد : كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب ، وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة : كسنة آل فرعون ، وقال الأخفش : كأمر آل فرعون وشأنهم . وقال النضر بن شميل : كعادة لآل فرعون ، يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق ، كعادة آل فرعون .
قوله تعالى : { والذين من قبلهم } . كفار الأمم الماضية ، مثل عاد وثمود وغيرهم .
قوله تعالى : { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله } . فعاقبهم الله .
ثم بين - سبحانه - أن حال الكافرين مع الحق الذي جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم كحال الذين سبقوهم في الجحود والعناد فقال - تعالى - : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } .
الدأب : أصله الدوام والاستمرار . يقال : دأب على كذا يداب دأباً ودأباً ودءوباً ، إذا داوم عليه وجد فيه وتعب . ثم غلب استعماله في الحال والشان والعادة ، لأن من يستمر في عمل أمدا طويلا يصير عادة من عاداته ، وحالا من أحواله فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم .
وآل فرعون : هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم .
قال الراغب : " والآل مقلوب عن الأهل . ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة . يقال آل فلان ولا يقال آل رجل . . . ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف والأفضل ، فيقال آل الله وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل فيقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا " .
والمعنى : حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذي جئت به - يا محمد - ولم يؤمنوا بك حالهم في استحقاق العذاب ، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال ، كفروا بآيات الله ، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكهم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب ، والله - تعالى - شديد العقاب لمن كفر بآياته .
والجار والمجرور بقوله { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف . أى شأن هؤلاء في تكذيبك يا محمد كشأن آل فرعون والذين من قبلهم في تكذيبهم لأنبيائهم .
والمقصود بآل فرعون أعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا في المتابعة ، والتواطؤ على الكفر ، لأنه إذا وجد العناد في التابع فهو في الغالب يكون في المتبوع أشد وأكبر . ولأنهم هم الذين حرضوه على الشرور والآثام والطغيان فلقد حكى القرآن عنهم ذلك في قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } وخص القرآن آل فرعون بالذكر من بين الذين سبقوهم في الكفر ، لأن فرعون كان اشد الطغاة طغيانا ، وأكبرهم غرورا وبطرا وأكثرهم استهانة بقومه ، واحتقارا لعقولهم وكيانهم ، ألم يقل لهم - كما حكى القرآن - { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } ألم يبلغ به غروره أن يقول لهم : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ألم يقل لوزيره : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً . . . }
ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فسادا لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران .
وجملة { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } تفسير لصنيعم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال . والمراد بالآيات ما يعم المتلوة في كتب الله - تعالى - والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم .
وفي إضافتها إلى الله - تعالى - تعظيم لها وتنبيه على قوة دلالتها على الحق والخير وقوله { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } بيان لما أصابهم بسبب كفرهم وتكذيبهم للحق ، وفي التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العقوبة ، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذى لا يستطيع فكاكا من آسره .
والباء للسببية أى أخذهم بسبب ما اجترحوه من ذنوب . أو الملابسة والمصاحبة . أى أخذهم وهم متلبسون بذنوبهم دون أن يتوبوا منها أو يقعلوا عنها ، والجمل على الوجهين تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم اتسحقوا ذلك .
وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشيء ، أي بمؤخرته ثم أطلق على الجريمة لأن مرتكبها يعاقب بعدها .
وفي قوله : { والله شَدِيدُ العقاب } إشارة إلى أن شدة العقاب سببها شدة الجريمة وتعليم للناس بأن كل فعل له جزاؤه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وتقرير وتأكيد لمضمون ما قبلها .
{ كدأب آل فرعون } متصل بما قبله أي لن تغن عن أولئك ، أو توقد بهم كما توقد بأولئك ، أو استئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب ، وهو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن . { والذين من قبلهم } عطف على { آل فرعون } . وقيل استئناف . { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم } حال بإضمار قد ، أو استئناف بتفسير حالهم ، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم . { والله شديد العقاب } تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف الكفرة .
والكاف في قوله { كدأب } في موضع رفع ، التقدير : دأبهم { كدأب } ، ويصح أن يكون الكاف في موضع نصب ، قال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف تقديره كفراً { كدأب } ، فالعامل فيه { كفروا } ، ورد هذا القول الزجاج بأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة .
قال القاضي رحمه الله : ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ «الوقود » ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً{[2980]} ، أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] ، والقول الأول أرجح الأقوال أن يكون الكاف في موضع رفع ، والهاء في { قبلهم } عائدة على { آل فرعون } ، ويحتمل أن تعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار ، وقوله : { بآياتنا } يحتمل أن يريد بالآيات المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة ، واختلفت عبارة المفسرين ، في تفسير الدأب ، وذلك كله راجع إلى المعنى الذي ذكرناه .
قوله : { كدأب ءال فرعون } موقع كاف التشبيه موقع خبرٍ لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبّه به ، والتقدير : دأبُهم في ذلك كدأب آل فرعون ، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون .
والدأب : أصله الكَدْح في العمل وتكريره ، وكأنّ أصل فعله متعدَ ، ولذلك جاء مصدره على فَعْل ، ثم أطلق على العادة لأنّها تأتي من كثرة العمل ، فصار حقيقة شائعة قال النابغة :
* كدأبِك في قومٍ أرَاكَ اصطنعتَهُم *
أي عادتك ، ثم استعمل بمعنى الشَّأن كقول امرىء القيس
* كدأبك من أم الحُويرث قبلَها *
وهو المراد هنا ، في قوله : { كدأب ءال فرعون } ، والمعنى : شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون ؛ إذ ليس في ذلك عادة متكرّرة ، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة ؛ لأنّهم إذا استقْرَوْا الأمم التي أصابها العذاب ، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر : بالله ، وبرسله ، وبآياته ، وكفَى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب ، وقد تعيّن أن يكون المشبّه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا ؛ إذ الأصل أنّ حال المشبّه ، أظهر من حال المشبّه به عند السامع .
وعليه فالأخذ في قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله : { أخذناهم بغتة فإذا هم مُبلسون فقطع دابر القوم الذي ظلموا } [ الأنعام : 44 ، 45 ] .
وأريد بآل فرعون فرعون وآلهُ ؛ لأنّ الآل يطلق على أشدّ الناس اختصاصاً بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعةِ والتواطؤ على الكفر ، كقوله : { أدْخِلُوا ءال فرعون أشدّ العذاب } [ غافر : 46 ] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم ؛ إذ قوم الرجل قد يخالفون ، فلا يدل الحكم المتعلّق بهم على أنّه مساوٍ لهم في الحكم ، قال تعالى : { ألا بعداً لعاد قوم هود } [ هود : 60 ] في كثير من الآيات نظائرها ، وقال : { أن ائْتِ القومَ الظالمين قومَ فرعون } [ الشعراء : 10 ، 11 ] .
وقوله : « كذبوا » بيان لدأبهم ، استئناف بياني . وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب ، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر ؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئاً تُجاه ضلالهم ؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهداً بزمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقول شعيب : { وما قوم لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] وكقول الله تعالى للمشركين : { وإنّها لبسبيل مقيم } [ الحجر : 76 ] وقوله : { وإنّهما لبإمام مبين } [ الحجر : 79 ] وقوله : { وإنّكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبحين وبالليلِ أفلا تعقلون } [ الصافات : 137 ، 138 ] .