الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (11)

الدأب العادة والشأن . ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد ، وأدأبته أنا . وأدأب بعيره إذا جهده في السير . والدائبان الليل والنهار . قال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر " كدأب " بفتح الهمزة ، وقال لي وأنا غليم : على أي شيء يجوز " كدأب " ؟ فقلت له : أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا . فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري ؛ ولا أدري أيقال أم لا . قال النحاس : " وهذا القول خطأ ، لا يقال البتة دَئِب ؛ وإنما يقال : دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا{[2888]} ؛ هكذا حكى النحويون ، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر ؛ كما قال امرؤ القيس :

كدأبِك من أم الحُوَيْرِثِ قبلها *** وجارتها أم الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ{[2889]}

فأما الدَّأَب فإنه يجوز ، كما يقال : شَعْر وشَعَر ونَهْر ونَهَر ؛ لأن فيه حرفا من " حروف الحلق " . واختلفوا في الكاف ، فقيل : هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون ، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى . وزعم الفراء أن المعنى : كفرت العرب ككفر آل فرعون . قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا ؛ لأن كفروا داخلة في الصلة . وقيل : هي متعلقة ب " أخذهم الله " ، أي أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون . وقيل : هي متعلقة بقوله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم . . . " [ آل عمران : 10 ] أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون . وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال : شغلتنا أموالنا وأهلونا . ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق . ويؤيد هذا المعنى " . . . وحاق بآل فرعون سوء العذاب . النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " {[2890]} [ المؤمن : 46 ] . والقول الأول أرجح ، واختاره غير واحد من العلماء . قال ابن عرفة : " كدأب آل فرعون " أي كعادة آل فرعون . يقول : اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء ، وقال معناه الأزهري . فأما قوله في سورة ( الأنفال ) " كدأب آل فرعون " {[2891]} فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك . " بآياتنا " يحتمل أن يريد الآيات المتلوة ، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية . " فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب " .


[2888]:- زيادة عن إعراب القرآن للنحاس.
[2889]:- أم الحويرث: هي "هر" أم الحارث بن حصين ابن ضمضم الكلابي، وكان امرؤ القيس يشبب بها في أشعاره، وأم الرباب من كلب أيضا. ومأسل: موضع. يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. (عن شرح المعلقات).
[2890]:- راجع جـ15 ص 318.
[2891]:- راجع جـ8 ص 29.