البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (11)

الدأب : العادة .

دأب على كذا : واظب عليه وأدمن .

قال زهير :

لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبنّ *** إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل

الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب .

{ كدأب آل فرعون } لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخراً إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن آمن به .

أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنياد وصاروا إلى النار .

واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية .

وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون .

كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري .

وقيل : بفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق ، قاله ابن عطية .

وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون .

ويدل عليه وقود النار .

وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري .

وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : { أولئك هم وقود النار } على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري .

وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون .

وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفراً كدأب والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة .

وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفراً كعادة آل فرعون .

وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون .

وقيل : يتعلق بقوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } أي : أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها .

وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيداً قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول .

فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف .

قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة : دأب .

وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غُلَيْمٌ على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأباً ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤباً هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب ( المصادر ) .

وآل فرعون : أشياعه وأتباعه .

{ والذين من قبلهم } هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم .

فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضع : والذين ، جر عطفاً على : آل فرعون .

{ كذبوا بآياتنا } هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : { كدأب آل فرعون } ثم ابتدأ فقال : { والذين من قبلهم كذبوا } فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التفات ، إذ قبله من الله ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم .

و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه .

{ فأخذهم الله بذنوبهم } رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب .

{ والله شديد العقاب } تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها .

/خ11