أحدهما : أنها في محل رَفْع ؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر ، تقديره : دأبهم - في ذلك " كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن " وبه بدأ الزمخشريُّ ، وابنُ عطية .
الثاني : أنها في محل نَصْب ، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ :
أحدها : أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والعامل فيه " كَفَرُوا " ، تقديره : إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون ، أي : كعادتهم في الكفر ، وهو رأي الفرَّاءِ {[5134]} .
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ ، وهو لا يجوز .
الثاني : أنه منصوب ب " كَفَرُوا " لكن مقدر ؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه .
الثالث : أن الناصبَ مقدَّر ، مدلول عليه بقوله : " لَنْ تُغْنِيَ " أي : بطل انتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك . والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد .
الرابع : أنه منصوب بلفظ " وَقُودُ " ، أي : تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر ؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به ، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له ، فإن قيل : إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ ، ويكون معنى الدأب : الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام ، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية : " وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ{[5135]} " .
[ أي : دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون ] .
الخامس : أنه منصوب بنفس " لَنْ تُغْنِي " أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك ، ذكره الزمخشري ، وضعَّفه أبو حيَّان{[5136]} بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } قال : " على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر " إنَّ " أو على الجملة المؤكَّدة ب " إنَّ " قال : فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريّ " .
السادس : أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً ، مدلولاً عليه بلفظ " الوَقُود " ، تقديره : توقَد بهم كعادة آل فرعون ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابنُ عطية .
السابع : أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ ، يدل عليه سياق الكلام .
الثامن : أنه منصوب ب{ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ، والضمير في " كَذَّبُوا " - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب .
التاسع : أن العامل فيه قوله : { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } ، أي : فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون ، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل ، وتارةً إلى المفعول ، والمعنى : كَدَأبِ الله في آل فرعون ، ونظيره قوله تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] أي : كَحُبِّهم لله ، وقال [ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ } [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك ، وهذا مردود ؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب ، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف ، فعلى هذا يجوز هذا القول ، وفي كلام الزمخشريِّ سهو ؛ فإنه قال{[5137]} : ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب " لَنْ تُغْنِيَ " أو ب " خَالِدُونَ " ، [ أي : لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون ] {[5138]} .
وليس في لفظ الآية الكريمة { خَالِدُونَ } ، إنما نظم الآية { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } ، ويبعد أن يقال : أراد " خَالِدُون " مُقَدَّراً ، يدل عليه السياق ، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء .
وقال القفَّالُ : " يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ ، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفار ، وبشارته بأن الله سينتقم منهم " .
الدأب : العادة ، يقال : دأب ، يَدْأبُ ، أي : واظب ، ولازم ، ومنه { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } [ يوسف : 47 ] ، أي : مداومة .
كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا *** وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَأسَلِ{[5139]}
لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ *** إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ{[5140]}
وقال الواحديُّ : " الدأب : الاجتهاد والتعب ، يقال : صار فلان يومه كله يَدْأب فيه ، فهو دائب ، أي : اجتهد في سَيْرِه ، هذا أصله في اللغة ، ثم [ يصير ] {[5141]} الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة ؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله " .
وكذا قال الزمخشريُّ ، قال : " مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه ، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله " .
ويقال : دأَب ، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص{[5142]} : { سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } بالفتح .
قال الفرَّاء : " والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل ، والنَّهْر والنَّهَر ، والشَّأْم والشَّأَم .
قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ *** وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا{[5143]}
{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على { آلِ فِرْعَوْنَ } ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء ، والخبر قوله - بعد ذلك - { كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ } ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً ، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع ، فقال : " فعلى هذا - أي : على كونها مرفوعة المحل ؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }
أحدهما : الجر ، بالعطف أيضا ، و " كذبوا " في موضع الحال ، و " قد " معه مضمرة ، ويجوز أن يكون مستأنفا لا موضع له ، ذكر لشرح حالهم .
الوجه الآخر : أن يكون الكلام تمّ على { آل فرعون } و{ الذين من قبلهم } مبتدأ ، و " كذبوا " خبره .
قوله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن " الَّذِينَ " إن قيل : إنه مبتدأ ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ، وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتِنا ، فهو جوابُ سؤال مقدر ، وأن يكون حالاً ، وفي قوله : { بِآيَاتِنَا } التفات ؛ لأن قبله { مِّنَ اللَّهِ } وهو اسم ظاهر .
والمراد بالآيات : المعجزات ، والباء في " بِذُنُوبِهِمْ " يَجوز أن تكون سببيةً ، أي : أخذهم بسبب ما اجترحوا ، وأن تكون للحالِ ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب ، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع ، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً ؛ لأنها يتلو ، أي : يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب : الدَّلْو ؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان ؛ لأن يذنبه أي : يتلوه ، يقال : ذنبه يذنبه ذنباً ، أي : تبعه ، واستعمل في الأخذ ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص . قوله { شَدِيدُ الْعِقَابِ } كقوله : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 202 ] ، أي : شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.