اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (11)

في كاف " كَدَأب " وجهانِ :

أحدهما : أنها في محل رَفْع ؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر ، تقديره : دأبهم - في ذلك " كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن " وبه بدأ الزمخشريُّ ، وابنُ عطية .

الثاني : أنها في محل نَصْب ، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ :

أحدها : أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والعامل فيه " كَفَرُوا " ، تقديره : إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون ، أي : كعادتهم في الكفر ، وهو رأي الفرَّاءِ {[5134]} .

وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ ، وهو لا يجوز .

الثاني : أنه منصوب ب " كَفَرُوا " لكن مقدر ؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه .

الثالث : أن الناصبَ مقدَّر ، مدلول عليه بقوله : " لَنْ تُغْنِيَ " أي : بطل انتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك . والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد .

الرابع : أنه منصوب بلفظ " وَقُودُ " ، أي : تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر ؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به ، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له ، فإن قيل : إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ ، ويكون معنى الدأب : الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام ، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية : " وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ{[5135]} " .

[ أي : دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون ] .

الخامس : أنه منصوب بنفس " لَنْ تُغْنِي " أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك ، ذكره الزمخشري ، وضعَّفه أبو حيَّان{[5136]} بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } قال : " على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر " إنَّ " أو على الجملة المؤكَّدة ب " إنَّ " قال : فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريّ " .

السادس : أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً ، مدلولاً عليه بلفظ " الوَقُود " ، تقديره : توقَد بهم كعادة آل فرعون ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابنُ عطية .

السابع : أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ ، يدل عليه سياق الكلام .

الثامن : أنه منصوب ب{ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ، والضمير في " كَذَّبُوا " - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب .

التاسع : أن العامل فيه قوله : { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } ، أي : فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون ، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل ، وتارةً إلى المفعول ، والمعنى : كَدَأبِ الله في آل فرعون ، ونظيره قوله تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] أي : كَحُبِّهم لله ، وقال [ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ } [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك ، وهذا مردود ؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب ، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة .

وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف ، فعلى هذا يجوز هذا القول ، وفي كلام الزمخشريِّ سهو ؛ فإنه قال{[5137]} : ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب " لَنْ تُغْنِيَ " أو ب " خَالِدُونَ " ، [ أي : لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون ] {[5138]} .

وليس في لفظ الآية الكريمة { خَالِدُونَ } ، إنما نظم الآية { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } ، ويبعد أن يقال : أراد " خَالِدُون " مُقَدَّراً ، يدل عليه السياق ، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء .

وقال القفَّالُ : " يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ ، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفار ، وبشارته بأن الله سينتقم منهم " .

الدأب : العادة ، يقال : دأب ، يَدْأبُ ، أي : واظب ، ولازم ، ومنه { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } [ يوسف : 47 ] ، أي : مداومة .

وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]

كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا *** وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَأسَلِ{[5139]}

وقال زُهير : [ الطويل ]

لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ *** إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ{[5140]}

وقال الواحديُّ : " الدأب : الاجتهاد والتعب ، يقال : صار فلان يومه كله يَدْأب فيه ، فهو دائب ، أي : اجتهد في سَيْرِه ، هذا أصله في اللغة ، ثم [ يصير ] {[5141]} الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة ؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله " .

وكذا قال الزمخشريُّ ، قال : " مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه ، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله " .

ويقال : دأَب ، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص{[5142]} : { سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } بالفتح .

قال الفرَّاء : " والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل ، والنَّهْر والنَّهَر ، والشَّأْم والشَّأَم .

وأنشد : [ البسيط ]

قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ *** وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا{[5143]}

{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على { آلِ فِرْعَوْنَ } ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء ، والخبر قوله - بعد ذلك - { كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ } ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً ، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع ، فقال : " فعلى هذا - أي : على كونها مرفوعة المحل ؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }

وجهان :

أحدهما : الجر ، بالعطف أيضا ، و " كذبوا " في موضع الحال ، و " قد " معه مضمرة ، ويجوز أن يكون مستأنفا لا موضع له ، ذكر لشرح حالهم .

الوجه الآخر : أن يكون الكلام تمّ على { آل فرعون } و{ الذين من قبلهم } مبتدأ ، و " كذبوا " خبره .

قوله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن " الَّذِينَ " إن قيل : إنه مبتدأ ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ، وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتِنا ، فهو جوابُ سؤال مقدر ، وأن يكون حالاً ، وفي قوله : { بِآيَاتِنَا } التفات ؛ لأن قبله { مِّنَ اللَّهِ } وهو اسم ظاهر .

والمراد بالآيات : المعجزات ، والباء في " بِذُنُوبِهِمْ " يَجوز أن تكون سببيةً ، أي : أخذهم بسبب ما اجترحوا ، وأن تكون للحالِ ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب ، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع ، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً ؛ لأنها يتلو ، أي : يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب : الدَّلْو ؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان ؛ لأن يذنبه أي : يتلوه ، يقال : ذنبه يذنبه ذنباً ، أي : تبعه ، واستعمل في الأخذ ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص . قوله { شَدِيدُ الْعِقَابِ } كقوله : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 202 ] ، أي : شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه .


[5134]:ينظر معاني القرآن 1/191.
[5135]:سقط في أ.
[5136]:ينظر: البحر المحيط 2/406.
[5137]:وعبارة الزمخشري: ويجوز أن ينتصب محل الكاف بـ "لن تغني"، أو بـ "الوقود"؛ لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو توقد بهم النار كما توقد بهم، تقول: إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد: كظلم أبيك. ينظر الكشاف 1/340.
[5138]:سقط في أ.
[5139]:تقدم برقم 59.
[5140]:ينظر ديوانه 84، واللسان (طفل)، وأساس البلاغة ص 392، والتاج 7/417، والدر المصون 2/22.
[5141]:سقط في أ.
[5142]:ينظر السبعة 349، وستأتي في يوسف آية 47.
[5143]:ينظر الدر المصون 2/23.