قوله عز وجل :{ ما أصاب من مصيبة في الأرض } يعني : قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، { ولا في أنفسكم } يعني : الأمراض وفقد الأولاد ، { إلا في كتاب } يعني : اللوح المحفوظ ، { من قبل أن نبرأها } من قبل أن نخلق الأرض والأنفس . قال ابن عباس : من قبل أن نبرأ المصيبة . وقال أبو العالية : يعني النسمة ، { إن ذلك على الله يسير } أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل .
بين - سبحانه - أن كل شىء فى هذه الحياة ، خاضع لقضاء الله - تعالى - وقدره ، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء ، صابرا عند البلاء . . . فقال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ . . . } .
{ مَآ } فى قوله - تعالى - { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } نافية ، و { مِن } مزيدة لتأكيد هذا النفى وإفادة عمومه . ومفعلو " أصاب " محذوف . وقوله { فِي الأرض } إشارة إلى المصائب التى تقع فيها من فقر وقحط ، وزلازل .
وقوله : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } للإشارة إلى ما يصيب الإنسان فى ذاته ، كالأمراض ، والهموم .
والاستثناء فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } من أعم الأحوال ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه - عز وجل - الشامل لكل شىء .
وقوله : { نَّبْرَأَهَآ } من البرء - بفتح الباء - بمعنى الخلق والإيجاد ، والضمير فيه يعود إلى النفس ، أو إلى الأرض ، أو إلى جميع ما ذكره الله - تعالى - من خلق المصائب فى الأرض والأنفس .
والمعنى : واعلموا - أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح - أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة ، هذه المصيبة كائنة فى الأرض - كالقحط والزلازل - أو فى أنفسكم - كالأسقام والأوجاع - إلا وهذه المصائب مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . . . وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس ، وهذه المصائب .
وكرر - سبحانه - حرف النفى فى قوله { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } للإيماء إلى أن المصائب التى تتعلق بذات الإنسان ، يكون أشد تأثرا واهتماما بها ، أكثر من غيرها .
واسم الإشارة فى قوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يعود إلى الكتابة فى الكتاب .
أى : إن ذلك الذى أثبتناه فى لوحنا المحفوظ وفى علمنا الشامل لكل شىء . . . قبل أن نخلقكم ، وقل أن نخلق الأرض . . . يسير وسهل علينا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء ، وعلمنا لا يعزب عنه شىء .
فالآية الكريمة صريحة فى بيان أن ما يقع فى الأرض وفى الأنفس من مصائب - ومن غيرها من مسرات - مكتوب ومسجل عند الله - تعالى - قبل خلق الأرض والأنفس .
وخص - سبحانه - المصائب بالذكر ، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا ، وكثيرا ما يكون إحساسه بها ، وإدراكه لأثرها ، أشد من إحساسه وإدركه للمسرات .
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية فى معنها قوله - تعالى - : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }
ثم تجيء اللمسة الرابعة في إيقاع عميق ، عن قدر الله ، الذي لا يكون سواه :
( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) . .
إن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه ، محسوب حسابه في كيانه . . لا مكان فيه للمصادفة . ولا شيء فيه جزاف . وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور . . وفي علم الله لا شيء ماض ، ولا شيء حاضر ، ولا شيء قادم . فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا - نحن أبناء الفناء - نرى بها حدود الأشياء . فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها . حدود من الزمان وحدود من المكان . نحن لا نملك إدراك المطلق إلا في ومضات تتصل فيها أرواحنا بذلك المطلق ، عن طريق غير الطريق الذي اعتدناه في إدراك الأشياء . فأما الله - سبحانه - فهو الحقيقة المطلقة التي تطلع جملة على هذا الوجود ، بلا حدود ولا قيود . وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته كائن في علم الله جملة لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان . ولكل حادث موضعه في تصميمه الكلي المكشوف لعلم الله . فكل مصيبة - من خير أو شر فاللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير ولا بشر - تقع في الأرض كلها وفي أنفس البشر أو المخاطبين منهم يومها . . هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس في صورتها التي ظهرت بها . . ( إن ذلك على الله يسير ) . .
وقوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة } قال ابن زيد وغيره المعنى : ما حدث من حادث خير وشر ، فهذا على معنى لفظ : { أصاب } لا على عرف المصيبة ، فإن عرفها في الشر . وقال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر ، لأنها أهم على البشر ، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك .
وقوله تعالى : { في الأرض } يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك . وقوله : { في أنفسكم } يريد بالموت والأمراض وغير ذلك .
وقوله تعالى : { إلا في كتاب } معناه : إلا والمصيبة في كتاب . و : { نبرأها } معناه : نخلقها ، يقال : برأ الله الخلق : أي خلقهم ، والضمير عائد على المصيبة ، وقيل : على { الأرض } ، وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر ، وهي كلها معان صحاح ، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها .
وقوله تعالى : { إن ذلك على الله يسير } يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما أصاب من مصيبة في الأرض} من قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، {ولا في أنفسكم} يقول: ما أصاب هذه النفس من البلاء... {إلا في كتاب} مكتوب يعني اللوح المحفوظ {من قبل أن نبرأها} يعني من قبل أن يخلق هذه النفس {إن ذلك} الذي أصابها في كتاب يعني اللوح المحفوظ، إن ذلك {على الله يسير} يقول: هين على الله تعالى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في الأرض بجدوبها وقحوطها، وذهاب زرعها وفسادها" وَلا فِي أنْفُسِكُمْ "بالأوصاب والأوجاع والأسقام إلاّ فِي كِتابٍ يعني إلا في أمّ الكتاب "مِنْ قَبْل أنْ نَبْرأها" يقول: من قبل أن نبرأ الأنفس، يعني من قبل أن نخلقها...
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما أصاب من مصيبة في دين ولا دنيا...
وقوله: "إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن خلق النفوس، وإحصاء ما هي لاقية من المصائب على الله سهل يسير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ما أصاب من مصيبة}...: ما حدث من حادث خير وشر، فهذا على معنى لفظ: {أصاب} لا على عرف المصيبة، فإن عرفها في الشر. وقال ابن عباس ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر، لأنها أهم على البشر، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك.
{نبرأها}... والضمير عائد على المصيبة، وقيل: على {الأرض}، وقيل: على الأنفس...
وهي كلها معان صحاح، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. إن ذلك على الله يسير. لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد).. إن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه، محسوب حسابه في كيانه.. لا مكان فيه للمصادفة. ولا شيء فيه جزاف. وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور.. وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم. فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا -نحن أبناء الفناء- نرى بها حدود الأشياء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(ما) نافية و (من) زائدة في النفي للدلالة على نفي الجنس قصداً للعموم.. وتكرير حرف النفي في المعطوف على المنفي في قوله: {ولا في أنفسكم} لقصد الاهتمام بذلك المذكور بخصوصه فإن المصائب الخاصة بالنفس أشد وقعاً على المصاب، فإن المصائب العامة إذا اخْطأَتْه فإنما يتأثر لها تأثراً بالتعقل لا بالحسّ فلا تدوم ملاحظة النفس إياه. والاستثناء في قوله: {إلا في كتاب} استثناء من أحوال منفية ب (ما)، إذ التقدير: ما أصاب من مصيبة في الأرض كائنة في حال إلا في حال كونها مكتوبة في كتاب، أي مثبتة فيه. والكتاب: مجاز عن علم الله تعالى ووجه المشابهة عدم قبوله التبديل والتغيير والتخلف...