قوله تعالى : { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } ، أي : نترامى وننتصل ، وقال السدي : نشتد على أقدامنا . { وتركنا يوسف عند متاعنا } ، أي : عند ثيابنا وأقمشتنا . { فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } . بمصدق لنا ، { ولو كنا } ، وإن كنا ، { صادقين } . فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب أنت لا تصدق الصادق ؟ . قيل : معناه إنك تتهمنا في هذا الأمر لأنك خفتنا في الابتداء واتهمتنا في حقه . وقيل : معناه لا تصدقنا وإن كنا صادقين عند الله .
{ قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أى : نتسابق عن طريق الرمى بالسهام ، أو على الخيل ، أو على الأقدام . يقال : فلان وفلان استبقا أى : تسابقا حتى ينظر أيها يسبق الآخر .
{ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أى : عند الأشياء التي نتمتع بها وننتفع في رحلتنا ، كالثياب والأطعمة ، وما يشبه ذلك .
{ فَأَكَلَهُ الذئب } في تلك الفترة التي تركناه فيها عند متاعنا .
والمراد : قتله الذئب ، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه .
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أى : وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن يوسف قد أكله الذئب ، حتى ولو كنا صادقين في ذلك ، لسوء ظنك بنا ، وشدة محبتك له .
وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم ، وبمخادعتهم له ، ويكاد المريب أن يقول خذونى - كما يقولون - .
( قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) . .
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة ، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم ! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون ، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى . كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع ، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ،
وهم ينفونها ، ويكادون يتهكمون بها . فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس ! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب . .
وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . .
ويحسون أنها مكشوفة ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ، فيقولون :
( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) . .
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله ، ولو كان هو الصدق ، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول .
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب : أنهم{[15085]} رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم ، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : نترامى ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } أي : ثيابنا وأمتعتنا ، { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } وهو الذي كان [ قد ]{[15086]} جزع منه ، وحذر عليه .
وقولهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا - والحالة هذه - لو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ، لأنك خشيت أن يأكله الذئب ، فأكله الذئب ، فأنت معذور في تكذيبك لنا ؛ لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا .
الاستباق : افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في الكشاف } : « والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل ، والارتماء والترامي ، أي فهو بمعنى المفاعلة . ولذلك يقال : السباق أيضاً . كما يقال النضال والرماء » . والمراد : الاستباق بالجري على الأرجل ، وذلك من مرح الشباب ولعبهم .
والمتاع : ما يتمتع أي ينتفع به . وتقدم قي قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النساء ( 102 ) . والمراد به هنا ثَقَلهم من الثياب والآنية والزاد .
ومعنى { فأكله الذئب } قتله وأكل منه ، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء . والمراد بعضه . يقال أكلَه الأسد إذا أكل منه . قال تعالى : { وما أكل السّبع } [ سورة المائدة : 3 ] عطفاً على المنهيات عن أن يؤكل منها ، أي بقتلها .
ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة أكلني الكلب ، أي عضّني .
والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفاً عند قوله : { وأخاف أن يأكله الذئب } [ سورة يوسف : 13 ] ؛ بحيث لم يترك الذئاب منه ، ولذلك لم يقولوا فدفنّاه .
وقوله : { وما أنت بمؤمن لنا } خبر مستعمل في لازم الفائدة . وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر . وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادّعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه ، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم .
وفعل الإيمان يعدّى باللام إلى المصدّق بفتح الدال كقوله تعالى : { فآمن له لوطٌ } [ سورة العنكبوت : 26 ] . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه } في سورة يونس ( 83 ) .
وجملة { ولو كنا صادقين } في موضع الحال فالواو واو الحال . { ولو } اتصالية ، وهي تفيد أنه مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال . والتقدير : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر ، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموّه عليك .
وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع ( لو وإن ) الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع ، ألا ترى قول المعري :
وإني وإن كنتُ الأخيّر زمانه *** لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخيرَ زمانه . فشرط ( لو ) الوصلية و ( إن ) الوصلية ليس لهما مفهومُ مخالفة ، لأن الشرط معهما ليس للتقييد . وتقدم ذكر ( لَو ) الوصلية عند قوله تعالى : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } في سورة البقرة ( 170 ) ، وعند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } في سورة آل عمران ( 91 ) .