مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُؤۡمِنٖ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَٰدِقِينَ} (17)

قالوا : { ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } فبكى وصاح وقال : أين القميص ؟ فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص ، وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي : يا أبا أمية ما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة ، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق ، واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج : يسابق بعضهم بعضا في الرمي ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر » يعني بالنصل الرمي ، وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهما وأبعد غلوة ، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال : استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهما ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبد الله { إنا ذهبنا } .

والقول الثاني : في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل : { ذهبنا نستبق } نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا .

فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان ؟

قلنا : الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله : { فأكله الذئب } قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع ، والوجه هو الأول .

ثم قالوا : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق ، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا . والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا . وقيل : المعنى : إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق ، لأن المراد من قوله : { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق ، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك ، وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله : { الذين يؤمنون بالغيب } .