ثم بين - سبحانه - الحكمة من إرساله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } .
أى : هو - عز وجل - وحده ، الذى أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إرسالا ملتبسا الهدى ، أى : بالدليل الواضح والبرهان الساطع الذى يهدى للطريق التى هى أقوم . .
وأرسله - أيضا - بالدين الحق وهو دين الإِسلام ، الذى هو خاتم الأديان ، وأكملها ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } أى : من أجل أن يظهره ويعليه على جميع الأديان ، لما فيه من هدايات ، وعبادات ، وآداب ، وأحكام ، وتشريعات ، قد جمعت محاسن الأديان السابقة التى جاء بها الأنبياء ، وأضافت إليها جديدا اقتضته حكمة الله - تعالى - ورحمته بهذه الأمة التى أرسل رسوله محمدا إليها .
وقد بين - سبحانه - أن هذا الدين هو المقوبل عنده دون سواه ، فقال { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ولقد ظهر هذا الدين فعم المشارق ، والمغارب ، وسيبقى - بإذن الله - ظاهرا عل الأديان كلها بقوة حجته ، ونصاعة براهينه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
والباء فى قوله : { وكفى بالله شَهِيداً } مزيدة لتأكيد هذا الإِظهار .
أى : وكفى بشهادة الله - تعالى - شهادة على حقية هذا الدين ، وعلى هذا الإِظهار الذى تكفل الله - تعالى - به لدين الإِسلام .
وهكذا صدقت رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتحقق وعد الله . ثم كان الفتح في العام الذي يليه . وظهر دين الله في مكة . ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد . ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .
فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية " أندونيسيا " . . وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . . ( وكفى بالله شهيدا ) . .
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !
ثم قال تعالى ، مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلوات الله [ وسلامه ] {[26992]} عليه على عدوه وعلى سائر أهل الأرض : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ }
أي : بالعلم النافع والعمل الصالح ؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل ، فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض ، من عرب وعجم ومليين {[26993]} ومشركين ، { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : أنه رسوله ، وهو ناصره .
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } ملتبسا به أو بسببه أو لأجله . { ودين الحق } وبدين الإسلام . { ليظهره على الدين كله } ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا وإظهار فساد ما كان باطلا ، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون ، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح . { وكفى بالله شهيدا } على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات .
وقوله عز وجل : { هو الذي أرسل رسوله } الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان . ورأى بعض الناس[ أن ]{[10430]} لفظة : { ليظهره } تقتضي محو غيره به ، فلذلك قالوا : إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي . ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء ، وهذا موجود الآن في دين الإسلام ، فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين .
وقوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } معناه : شاهداً ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما شاهداً عندكم بهذا الخبر ومعلماً به . والثاني : شاهداً على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في صدره ومعاقباً لهم بحكم الشهادة ، والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا{[10431]} في أن يكتب محمد رسول الله ، فرد عليهم بهذه الآية كلها .
زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة . فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف ( قد ) ولام القسم في قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصولِ في قوله : { هو الذي أرسل رسوله } لأن الموصول يفيد العلم بضمون الصلة غالباً .
والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا } ، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجَب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة . وفي هذا تذكير ولَوْم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين .
والباء في { بالهدى } للمصاحبة وهو متعلق ب { أرسل } والهدى أطلق على ما به الهدى ، أي كقوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] ، وقوله : { شهرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } [ البقرة : 185 ] . وعطف { دين الحق } على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم
ويجوز أن يكون المراد { بالهدى } أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس ، و { بدين الحق } : شرائع الإسلام وفروعه .
واللام في { ليظهره } لتعليل فعل { أرسل } ومتعلقاته ، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب { كله } لأنه في معنى الجمع . ومعنى { يظهره } يُعْلِيه . والإظهار : أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا ، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازاً عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه ، أي ليشرفه على الأديان كلها ، وهذا كقوله في حق القرآن { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [ المائدة : 48 ] .
ولما كان المقصود من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى الخ الشهادة بأن الرؤيا صدْق ذيّل الجملة بقوله : وكفى باللَّه شهيداً } أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا مَا صْدَقَها في الإبان . وتقدم الكلام على نظير { وكفى باللَّه شهيداً } في آخر سورة النساء ( 79 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي أرسل رسوله} محمدا صلى الله عليه وسلم {بالهدى} من الضلالة {ودين الحق} يعني دين الإسلام لأن كل دين باطل غير الإسلام {ليظهره على الدين كله} يعني على ملة أهل الأديان كلها، ففعل الله ذلك به حتى قتلوا وأقروا بالخراج، وظهر الإسلام على أهل كل دين {ولو كره المشركون} [الصف:9] يعني العرب. {وكفى بالله شهيدا} فلا شاهد أفضل من الله تعالى بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، فلما كتبوا الكتاب يوم الحديبية، وكان كتبه علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى: لا نعرف أنك رسول الله، ولو عرفنا ذلك لقد ظلمناك إذا حين نمنعك عن دخول بيته، فلما أنكروا أنه رسول الله، أنزل الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى} من الضلال {ودين الحق} إلى آخر السورة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحَقّ "الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالبيان الواضح، وَدِين الحَق، وهو الإسلام الذي أرسله داعيا خلقه إليه "لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ" يقول: ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه، وذلك كان كذلك حتى ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذٍ تبطل الأديان كلها غير دين الله الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها.
وقوله: "وكَفَى باللّهِ شَهِيدا" يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أشهدك يا محمد ربك على نفسه، أنه سيظهر الدين الذي بعثك به، "وكَفَى باللّهِ شَهِيدا" يقول: وحسبك به شاهدا... وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، والذين كرهوا الصلح يوم الحُديبية من أصحابه، أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن بانصرافهم عن مكة قبل دخولهموها، وقبل طوافهم بالبيت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي أرسله بالهدى من كل ضلالة أو حيرة، أو أرسله بالبيان من كل عمًى وشُبهة، وهو هذا القرآن الذي سمّاه مرة هدًى ومرة رحمةً ومرة نورًا...
{ودين الحق} جائز أن يكون {الحق} هو نعت الدين، وهو الإسلام، وهو الدين الحق، وسائر الأديان باطلة. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {ودين الحق} أي دين الإله الذي هو الإله الحق، وهو الإله المستحق الألوهية، وغيره من الأديان دين الشيطان، ولا قوة إلا بالله...
ثم تُخرّج غلبته {على الدين كله} على وجهين:
أحدهما: أي غلب هذا الدين على الأديان كلها بالحُجج والبراهين وأنه من عند الله جاء. وقد كان بحمد الله كما ذُكر حتى عرف أهل الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق إلا من كابر عقله، وعاند الحق، أو غفل عن دلالته...
والثاني: يغلب على أهل الأديان كلهم حتى يصير أهل الإسلام ظاهرين غالبين من بين غيرهم. ويتوارى جميع أهل الأديان، ويختفون. ولكن ذلك في وقت دون وقت، وهو الوقت الذي ذكره أهل التأويل، وهو في وقت خروج عيسى عليه السلام يصير أهل الأديان كلهم أهل دين واحد، وهو الإسلام...
وقوله تعالى: {وكفى بالله شهيدا} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: {وكفى بالله شهيدا} بأن ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء به من عند الله. فإن كان التأويل هذا فإنما تكون هذه الشهادة في الآخرة.
والثاني: يحتمل قوله تعالى: {وكفى بالله شهيدا} بما أنشأ له من الآيات والحجج شهادة منه على رسالته ونبوته. وذلك في الدنيا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالهدى وَدِينِ الحق} بدين الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} على جنس الدين كله، يريد: الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب: وقد حقق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة. وقيل: هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات. وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه من فتح مكة {وكفى بالله شَهِيداً} على أنّ ما وعده كائن. وعن الحسن رضي الله عنه: شهد على نفسه أنه سيظهر دينك...
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى} وحكى له ما سيكون في اليقظة، ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه... وفيها أيضا بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له... و (الهدى) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى: {أنزل فيه القرآن هدى للناس} وعلى هذا {دين الحق} هو ما فيه من الأصول والفروع، ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع، ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و {دين الحق} هو الأحكام، وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب... والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى، ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} [الزمر: 23]...
وقوله تعالى: {ودين الحق} يحتمل وجوها:
(أحدها) أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال: بالهدى ودين الله،
(وثانيها) أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال: ودين الأمر الحق
(وثالثها) أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه...
وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله {ليظهره} راجعة إلى الرسول، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله، ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي: بالعلم النافع والعمل الصالح؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم ومليين ومشركين، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي: أنه رسوله، وهو ناصره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هو} أي وحده {الذي أرسل رسوله} أي الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه -صلى الله عليه وسلم {بالهدى} الكامل الذي يقتضي أن يستقيم به أكثر الناس، ولو أنه أخبر بشيء يكون فيه أدنى مقال لم يكن الإرسال بالهدى {ودين الحق} أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع {ليظهره} أي دينه {على الدين كله} دين أهل مكة و- العرب عباد الأصنام...
. {وكفى بالله} أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {شهيداً} أي ذا رؤية وخبرة بطية كل شيء ودخلته لما له الغنى في أمره، ولا شهيد في الحقيقة إلا هو سبحانه لأنه لا إحاطة وخبرة ورقبة إلا له سبحانه، وهو يشهد بكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة خصوصاً وفي غيرها عموماً.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخبر بحكم عام، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر. {وَدِينِ الْحَقِّ} أي: الدين الموصوف بالحق، وهو العدل والإحسان والرحمة. وهو كل عمل صالح مزك للقلوب، مطهر للنفوس، مرب للأخلاق، معل للأقدار. {لِيُظْهِرَهُ} بما بعثه الله به {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} بالحجة والبرهان، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا صدقت رؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتحقق وعد الله. ثم كان الفتح في العام الذي يليه. وظهر دين الله في مكة. ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد. ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا.
فلقد ظهر دين الحق، لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في امبراطورية كسرى كلها، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر، وظهر في الهند وفي الصين، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها، وفي جزر الهند الشرقية "أندونيسيا".. وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي.
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله -حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض. وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان.
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله، من حيث هو دين. فهو الدين القوي بذاته، القوي بطبيعته، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدم، وحاجات البيئات المتنوعة، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب!
وما من صاحب دين غير الإسلام، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة.. (وكفى بالله شهيدا)..
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية. ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته. بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل، والقيادة، في جميع الأحوال.
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم! فغير أهله يدركونها ويخشونها، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد {بالهدى} أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس، و {بدين الحق}: شرائع الإسلام وفروعه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ} الذي يفتح عقول الناس وقلوبهم على الحقّ، ويمهّد لهم سبيل الوصول إلى ما يقرّبهم من الصلاح ويبعدهم عن الفساد، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} ليهيمن الإسلام على الواقع ويسيطر الطرح الإسلامي على كل طروحات الباطل ذات العناوين الدينية أو غير الدينية...
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} على الدين كله وعلى صدق الرسالة والرسول...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ما المراد ب «الظهور على الدين كلّه»؟ أهو الظهور المنطقي؟! أم الظهور والغلبة العسكريان؟! هناك اختلاف بين المفسّرين.. يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقي والاستدلالي فحسب وهذا الأمر متحقق، لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الاستدلال والقدرة المنطقية على جميع الأديان. ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة، وموارد استعمال كلمة «يظهر» ومشتقاتها أيضاً دليل على الغلبة الخارجية... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليار نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة...