قوله عز وجل :{ ظهر الفساد في البر والبحر } يعني : قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية . قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً ، يقال : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ، { بما كسبت أيدي الناس } أي : بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤاً . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : الفساد في البر : قتل أحد بني آدم أخاه ، وفي البحر : غصب الملك الجائر السفينة . قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً . قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، امتلأت الأرض ظلماً وضلالة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } أي : عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ، { لعلهم يرجعون } عن الكفر وأعمالهم الخبيثة .
وبعد هذا التوجيه الحكيم ، يسوق - سبحانه - الآثار السيئة التى ترتب على الكفر والمعاصى ، ويأمر بالاعتبار بالسابقين ، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول : { ظَهَرَ الفساد فِي البر . . . لاَ يُحِبُّ الكافرين } .
قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس وغيره : المراد بالبر ها هنا ، الفيافى . وبالبحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف . وبالبحر المعروف .
والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق فى السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب به ببحره - يعنى ببلده - .
والمعنى : ظهر الفساد فى البر والبحر ، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم ، والقتل وسفك الدماء ، والأحقاد والعدوان ، ونقص البركة فى الزروع والثمار والمطاعم والمشارب ، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة . .
قال ابن كثير - رحمه الله - : وقال أبو العالية : من عصى الله فى الأرض فقد أفسد فيها ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود : " الحد يقام فى الأرض ، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً " .
والسبب فى هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس ، أو أكثرهم ، أو كثير منهم ، عن تعاطى المحرمات . وإذا ارتكبت المعاصى كان سبباً فى محق البركات . . وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات . وقد ثبت فى الحديث الصحيح : " إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " .
وقوله - تعالى - : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيان لسبب ظهور الفساد . أى : عم الفساد وطم البر والبحر ، بسبب اقتراف الناس للمعاصى . وانهماكهم فى الشهوات ، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله - تعالى - به ، أو نهاهم عنه ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فظهور الفساد وانتشاره ، لا يتم عبثاً أو اعتباطاً ، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله - تعالى - ، وارتكابهم للمعاصى . .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على الوقوع فى المعاصى من بلاء واختبار ، فقال : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
واللام فى " ليذيقهم " للتعليل وهى متعلقة بظهر . أى : ظهر الفساد . . ليذيق - سبحانه - الناس نتائج بعض اعمالهم السيئة ، كى يرجعوا عن غيرهم وفسقهم ، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة .
ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف ، اى : عاقبهم بانتشار الفساد بينهم ، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ فى المعاصى ، ولعلهم يرجعون عنها ، إلى الطاعة والعمل الصالح .
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد ، ويجعله مسيطرا على أقدارها ، غالبا عليها :
( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) . .
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته . . ( ليذيقهم بعض الذي عملوا )من الشر والفساد ، حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه : ( لعلهم يرجعون )فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وغيرهم : المراد بالبر هاهنا : الفَيَافي ، وبالبحر : الأمصار والقرى ، وفي رواية عن ابن عباس وعَكرمة : البحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر : البحر المعروف .
وقال زيد{[22871]} بن رُفَيْع : { ظَهَرَ الْفَسَادُ } يعني : انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط ، وعن البحر تعمى{[22872]} دوابه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سفيان ، عن حميد بن قيس الأعرج ، عن مجاهد : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، قال : فساد البر : قتل ابن آدم ، وفساد{[22873]} البحر : أخذ السفينة غصبا .
وقال عطاء الخراساني : المراد بالبر : ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر : جزائره .
والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صَالَح ملك أيلة ، وكتب إليه ببحره ، يعني : ببلده .
ومعنى قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أي : بان النقص في {[22874]} الثمار والزروع بسبب المعاصي .
وقال أبو العالية : مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : " لَحَدٌّ يقام في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " {[22875]} . والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس - أو أكثرهم ، أو كثير منهم - عن تعاطي المحرمات ، وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محاق {[22876]} البركات من السماء والأرض ؛ ولهذا إذا نزل عيسى [ ابن مريم ]{[22877]} عليه السلام ، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت ، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية ، وهو تركها - فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج ، قيل للأرض : أخرجي بركاتك . فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس ، ويستظلون بقَحْفها ، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس . وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير ؛ [ ولهذا ]{[22878]} ثبت في الصحيح :{[22879]} " إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد ، والشجر والدواب " {[22880]} .
ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عَوْف ، عن أبي قحذم قال{[22881]} : وجد رجل في زمان زياد - أو : ابن زياد - صرة فيها حَبّ ، يعني من بر أمثال النوى ، عليه مكتوب : هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل{[22882]} .
وروى مالك ، عن زيد بن أسلم : أن المراد بالفساد هاهنا الشرك . وفيه نظر .
وقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات ، اختبارا منه ، ومجازاة على صنيعهم ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن المعاصي ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] .
ظهر الفساد في البر والبحر } كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم . وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و " البحور " . { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } بعض أجزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة . وعن ابن كثير ويعقوب " لنذيقهم " بالنون . { لعلهم يرجعون } عما هم عليه .
ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله { ظهر الفساد في البر والبحر } ، واختلف الناس في معنى { البر والبحر } في هذه الآية ، فقال مجاهد { البر } البلاد البعيدة من البحر ، و { البحر } السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار ، وقال قتادة { البر } الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري ، و { البحر } المدن جمع بحرة{[9320]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه " الحديث{[9321]} ، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور »{[9322]} ، ورويت عن ابن عباس ، وقال مجاهد أيضاً : ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وفي البحر أخذ السفن غضباً ، وقال بعض العباد { البر } اللسان و { البحر } القلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن { البر والبحر } هما المعروفان المشهوران في اللغة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس : الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه ، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة ، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض براً وبحراً ، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى ، وقوله تعالى : { بما كسبت } تقديره جزاء ما كسبت ، ويحتمل أن تتعلق الباء ب { ظهر } أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر ، والترجي في «لعل » هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور ، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم » بالياء ، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم » بالنون{[9323]} ومعناهما بين ، وقرأ أيضاً أبو عبد الرحمن «لتذيقهم » بالتاء من فوق .
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة ، وهي من جوامع كلم القرآن . والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } الآيات [ الروم : 9 ] ، فلما طولبوا بالإقرار على مَا رأوه من آثار الأمم الخالية ، أو أُنكِرَ عليهم عدمُ النظر في تلك الآثار ، أُتبع ذلك بما أدَّى إليه طريق الموعظة من قوله { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } [ الروم : 27 ] ، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة ، والتذكير بدلائل الوحدانية ونِعَم الله تعالى ، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقاً مستقراً إدراكه في الفطرة البشرية ، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة ، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم ، أي بأعمالهم ، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثلَ ما كسبت أيدي أولئك .
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم . ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله { وإذا مسّ الناسَ ضُر دَعوا ربهم } [ الروم : 33 ] الآية ، فهي خبر مستعمل في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المُخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه ، كما يؤذن به قوله عقب ذلك { لعلهم يرجعون . } فالإتيان بلفظ الناس في قوله { بما كسبت أيدي الناس } إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود ، ومقتضى الظاهر أن يقال « بما كسبت أيديهم » . فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها ، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس ، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصارِ أولئك ، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سَوْق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب { غُلِبَتِ الرومُ } [ الروم : 2 ] .
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسِّ الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله ، وما بينها وبين جملة { وإذا مسّ الناسَ ضرّ } [ الروم : 33 ] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض . ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمةً وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضاً ينبىء أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح .
و { الفساد } : سوء الحال ، وهو ضد الصلاح ، ودل قوله : في البر والبحر } على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها . ثم التعريف في { الفساد : } إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين ، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برِّها وبحرِها أنه فساد في أحوال البر والبحر ، لا في أعمال الناس بدليل قوله { ليذيقهم بعضَ الذي عمِلوا لعلهم يرجعون } .
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه ، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ ، وفي مَوتان الحيوان المنتفع به ، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى ، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض .
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر ، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس . وقيل : أريد بالبر البَوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى ، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال : إن العرب تسمي الأمصار بحراً . قيل : ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول : ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه . يعني بالبحرة : مدينة يثرب وفيه بُعد . وكأنَّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه . وقد ذكر أهل السير أنَّ قريشاً أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعِظام ، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر ، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان .
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله { بما كسبت أيدي الناس } للعوض ، أي جزاء لهم بأعمالهم ، كالباء في قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] ، ويكون اللام في قوله { ليذيقهم } على حقيقة معنى التعليل .
ويجوز أن يكون المراد بالفساد : الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله { الله الذي خلقكم ثم رزقكم } إلى قوله : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ الروم : 40 ] ، فتكون الجملة إتماماً للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيهاً على أن الله خلق العالم سالماً من الإشراك ، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم . وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في « صحيح مسلم » : " إني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم ، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم ، وأمَرْتهم أن يشركوا بي " الحديث .
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى : ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط ، ويكون الباء في قوله { بما كسبت أيدي الناس } للسببية ، ويكون اللام في قوله { ليذيقهم بعض الذي عملوا } لامَ العاقبة ، والمعنى : فأذقناهم بعض الذي عملوا ، فجُعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى : { فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً } [ القصص : 8 ] ، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم . ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام مُحكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة ، فكانت وشائجَ لأمثالها :
فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 4 6 ] ، وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع . وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن ، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفياً .
ومحمل صيغة فعل { ظهر } على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل ، فيكون إشارة إلى فساد مشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة . وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] . وأيَّاً ما كان الفساد من معهود أو شامل ، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله { ليذيقهم بعض الذي عملوا } ، وأن الله يقدر أسبابه تقديراً خاصاً ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم . وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها ، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها ، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية .
و { ما } موصولة ، وحذف العائد من الصلة ، وتقديره : بما كسبته أيدي الناس ، أي بسبب أعمالهم . وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاماً . ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئِلَ : أي الذنب أعظم ؟ « أن تدعُو لله نِدّاً وهو خلقك » وقال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] وقال : { وأنْ لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } [ الجن : 16 ] .
ويجري حكمُ تعريف { الناس } على نحو ما يجري في تعريف { الفساد } من عهد أو عموم ، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم { الناس } عليهم .
والإذاقة : استعارة مكنية ؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيُحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم . ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء ، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل ، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه . وفي هذا تهديد إن لم يُقلعوا عن مساوىء أعمالهم كقوله تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] ، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] .
والعدول عن أن يقال : بعض أعمالهم إلى { بعضَ الذي عملوا } للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف ، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدورها منهم .
والرجاء المستفاد من ( لعلَّ ) يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه ، وأن حالهم حال من يُرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم ، وهذا كقوله تعالى : { أو لا يَرْون أنهم يُفْتَنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون } [ التوبة : 126 ] .
والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأنَّ الذي عصى ربه عبد أبق عن سيّده ، أو دابة قد أبدت ، ثم رجع . وفي الحديث « الله أفرحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال : أرجع إلى مكاني ، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده » . وقرأ الجمهور { ليذيقهم } بالياء التحتية ، أي ليذيقهم الله . ومعاد الضمير قوله { الله الذي خلقكم } [ الروم : 40 ] . وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة .