ثم بين - سبحانه - ما صنعه لهم السامرى من تلك الحلى فقال : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ } .
أى : فكانت نتيجة ما قذفوه من الحلى فى النار ، أن أخرج السامرى لهم من ذلك { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } أى : صوت كصوت البقر .
قيل : إن الله - تعالى - خلق الحياة فى ذلك العجل على سبيل الاختبار والامتحان لهم .
وقيل : لم تكن به حياة ، ولكن السامرى صنعه لهم بدقة ، وجعل فيه منافذ إذا دخلت فيها الريح أخرجت منه صوتا كصوت خوار البقر .
فقال بنو إسرائيل عندما رأوا العجل الذى صنعه لهم السامرى : هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ، لأن موسى نسى إلهه هنا ، وذهب ليبحث عنه فى مكان آخر ، فالضمير فى قوله { فَنَسِيَ } يعود لموسى .
وقولهم هذا يدل على بلادتهم وسوء أدبهم مع نبيهم ، فهم لم يكتفوا بعبادة العجل ، بل زعموا أن نبيهم الداعى لهم إلى توحيد الله ، قد كان يعبد العجل وأنه قد نسى مكانه فذهب يبحث عنه .
وقيل : إن الذى حدث منه النسيان هو السامرى ، وأن النسيان بمعنى الترك ، أى : فترك السامرى ما كان عليه من الإيمان الظاهرى ، ونبذ الدين الذى بعث الله - تعالى - به موسى ، وحض الناء على عبادة العجل الذى صنعه لهم .
والقول الأول هو أرجح ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه هو المأثور عن السلف .
قال ابن جرير : " وأولى الأقوال بالصواب عندنا أن يكون { فَنَسِيَ } خبرا من الله - تعالى - عن السامرى ، وأنه وصف موسى بأنه نسى ربه ، وأن ربه الذى ذهب يريده هو العجل الذى أخرجه السامرى ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، ولأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامرى عنه بذلك أشبه من غيره " .
فأخذها السامري فصاغ منها عجلا . والسامري رجل من " سامراء " كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب . وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتا كصوت الخوار ، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد - ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه - فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل ، وعكفوا على عجل الذهب ؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا : ( هذا إلهكم وإله موسى )راح يبحث عنه على الجبل ، هو هنا معنا . وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه !
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه ، وبتوجيهه وإرشاده . اتهامهم له بأنه غير موصول بربه ، حتى ليضل الطريق إليه ، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه !
{ قَالُوا } أي : بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم{[19466]} موسى وقرعهم : { مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي : عن قدرتنا واختيارنا .
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم ، حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي : ألقيناها عنا . وقد تقدم في حديث " الفتون " أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار .
وفي رواية السُّدِّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة{[19467]} ويجعل حجرًا واحدًا . حتى إذا رجع موسى يرى{[19468]} فيه ما يشاء . ثم جاء [ بعد ]{[19469]} ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون - وهو لا يعلم ما يريد - فأجيب له{[19470]} فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا . فكان عجلا له خُوار ، أي : صوت ، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ{[19471]} حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون ، فقال{[19472]} السامري : اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم .
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : [ أعمل ]{[19473]} ما ينفع ولا يضر .
فقالوا - أي : الضُّلال منهم ، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : نسيه هاهنا ، وذهب يتطلبه . كذا تقدم في حديث " الفتون " عن ابن عباس . وبه قال مجاهد .
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فَنَسِيَ } أي : نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فقالوا : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله ، يقول الله : { فَنَسِيَ } أي : ترك ما كان عليه من الإسلام يعني : السامري .
ثم أخبر الله تعالى عن فعل السامري بقوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسداً } ، ومعنى قوله { جسداً } أي شخصاً لا روح فيه ، وقيل معنى { جسداً } لا يتغذى . و «الخوار » صوت البقر ، وقالت فرقة كان هذا العجل يخور ويمشي ع وهكذا تكون الفتنة من قبل الله تعالى قاله ابن عباس ، وقالت فرقة إنما خار مرة واحدة . ثم لم يعد وقالت فرقة إنما كان خواره بالريح كانت تدخل من دبره وتخرج من فيه فيصوت لذلك .
الضمير في قوله { فقالوا } لبني إسرائيل ، أي قالوا حين قال كبارهم لصغارهم وهذا إشارة إلى العجل .
قوله تعالى { فنسي } يحتمل أن يكون من كلام بني إسرائيل أي فنسي موسى ربه وإلهه فذهب يطلبه في غير موضعه ، ويحتمل أن يكون قوله { فنسي } إخباراً من الله تعالى عن السامري ، أي نسي دينه وطريق الحق ع فالنسيان في التأويل الأول{[8147]} بمعنى الذهول ، وفي الثاني بمعنى الترك ،