قوله تعالى : { قال رب أنى } ، من أين ، { يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً } أي : وامرأتي عاقر . { وقد بلغت من الكبر عتياً } ، أي : يبساً ، قال قتادة : يريد نحول العظم ، يقال : عتا الشيخ يعتو عتياً وعسياً : إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عات عاس : إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف . وقرأ حمزة و الكسائي : عتياً وبكياً وصلياً وجثياً بكسر أوائلهن ، والباقون برفعها ، وهما لغتان
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله زكريا بعد هذه البشارة السارة . فقال - تعالى - : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } .
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال تقديره : فماذا قال زكريا عندما بشره الله - تعالى - بيحيى ؟
ولفظ { أنى } بمعنى : كيف . أو بمعنى : من أين .
أى : قال زكريا مخاطباً ربه بعد أن بشره بابنه يحيى : يا رب كيف يكون لى غلام ، وحال امرأتى أنها كانت عاقراً فى شبابها وفى شيخوختها ، وحالى أنا أننى قد بلغت من الكبر عتيا ، أى : قد تقدمت فى السن تقدماً كبيراً
يقال : عتى الشيخ يعتو عتيا - بكسر العين وضمها - إذا بلغ النهاية فى الكبر .
قال ابن جرير : " قوله : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } يقول : وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عات وعاس . وقد عتا يعتو عتوا وعتيا . . . وكل متناه فى كبر أو فساد أو كفر فهو عات . . . " .
فإن قيل : " ما المراد باستفهام زكريا - عليه السلام - مع علمه بقدرة الله - تعالى - على كل شىء ؟
فالجواب أن استفهامه إنما هو على سبيل الاستعلام والاستخبار ، لأنه لم يكن يعلم أن الله - تعالى - سيرزقه بيحيى عن طريق زوجته العاقر ، أو عن طريق الزواج بامرأة أخرى ، فاستفهم عن الحقيقة ليعرفها .
ويصح أن يكون المقصود بالاستفهام التعجب والسرور بهذا الأمر العجيب حيث رزقه الله الولد مع تقدم سنه وسن زوجته .
ويجوز أن يكون المقصود بالاستفهام الاستبعاد لما جرت به العادة من أن يأتى الغلام مع تقدم سنه وسن زوجته . وليس المقصود به استحالة ذلك على قدرة الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء .
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء . فإذا هو يواجه الواقع . . إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ، وهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه : فكيف يا ترى سيكون له غلام ? إنه ليريد أن يطمئن ، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام : ( قال : رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ? ) .
إنه يواجه الواقع ، ويواجه معه وعد الله . وإنه ليثق بالوعد ، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه . وهي حالة نفسية طبيعية . في مثل موقف زكريا النبي الصالح . الإنسان ! الذي لا يملك أن يغفل الواقع ، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله !
هذا تعجب من زكريا ، عليه السلام ، حين أجيب إلى ما سأل ، وبُشِّر بالولد ، ففرح فرحًا شديدًا ، وسأل عن كيفية ما يولد له ، والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته [ كانت ]{[18690]} عاقرًا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ، ومع أنه قد كبر وعتا ، أي عسا عظمه ونحل{[18691]} ولم يبق فيه لقاح ولا جماع .
تقول العرب للعود إذا يبس : " عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا ، وعَسا يَعْسو عُسوا وعِسيا " .
وقال مجاهد : { عِتِيًّا } بمعنى : نحول{[18692]} العظم .
وقال ابن عباس وغيره : { عِتِيًّا } يعني : الكبر .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حُصَيْن ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : لقد علمت السنة كلها ، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } أو " عسيا " .
ورواه الإمام أحمد عن سُرَيْج{[18693]} بن النعمان ، وأبو داود ، عن زياد بن أيوب ، كلاهما عن هشيم ، به .
{ قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } جساوة وقحولا في المفاصل ، وأصله عتو وكقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ، ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة والكسائي وحفص { عتيا } بالكسر ، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك : { قال } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.