اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا} (8)

قوله : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : مِنْ أين يكُون لي غلامٌ ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع ، ويكونُ في التلميذ ، يقال : غلامُ ثعلبٍ .

{ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } . أي : وامرأتي عاقرٌ ، ولم يقل : عاقرةٌ ؛ لأنَّ من كان على " فاعل " من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر ، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ .

قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر ، وصف بها المؤنَّث ، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث ؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ ، ورُبَعَةٌ ، وغلامٌ نُفَعَةٌ .

قوله : { عِتيًّا } : فيه أربعةُ أوجه :

أظهرها : أنه مفعولٌ به ، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ ، فعلى هذا " مِنَ الكِبرِ " يجوز أن يتعلَّق ب " بَلغْتُ " ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ على أنه حالٌ من " عِتيًّا " لأنه في الأصلِ صفةٌ له ؛ كما قدرته لك .

الثاني : أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل ؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه .

الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل " بَلَغْتُ " أي : عاتياً ، ذا عتيٍّ .

الرابع : أنه تمييزٌ ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة " مِنْ " مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء{[21436]} ، والأولُ هو الوجهُ .

والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ ، وهو مصدر " عَتَا ، يَعْتُو " أي : يَبِسَ ، وصلُبَ ، قال الزمخشريُّ : " وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ ، والعظام ؛ كالعُودِ القاحل ؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا ، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا " يريد بقوله : { أوْ بلغْتُ } أنه يجوزُ أن يكون مِنْ " عَتَا يَعْتُو " أي : فسد .

والأصلُ : " عُتُووٌ " بواوين ، فاستثقل واوان بعد ضمتين ، فكسرتِ التاءُ ؛ تخفيفاً ، فانقلبت الواو الأولى ياءً ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواوُ ياءً ، وأدغمت فيها الأولى ، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا ، والجمع : نحو : " عِصِيّ " إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح ؛ كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وقد يعلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ ، وقد يصحَّحُ ؛ نحو : " إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ " وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ .

وقرأ الأخوان{[21437]} " عتيًّا " و { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] و " بِكِيّاً " [ مريم : 58 ] و { جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] بكسر الفاء للاتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصلِ .

وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من " عتيًّا " و " صَليًّا " جعلهما مصدرين على زنة " فعيلٍ " كالعجيجِ والرَّحيلِ .

وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ " عُسِيًّا " بضم العين ، وكسر السينِ المهملة ، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف ، وتصريفها .

والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ .

يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا ، وعتيًّا ، فهو عاتٍ ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس . وليل عاتٍ : طويل ، وقيل : شديدُ الظلمة .

فصل

في هذه الآية سؤالان{[21438]} :

أحدهما : لم تعجب زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- بقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } مع أنَّه هو الذي طلب الغلام ؟ .

والسؤال الثاني : قوله : { أنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، وذلك كفر ، وهو غير جائز على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ؟ .

فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد ، فالإشكال زائلٌ ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد ، فالجوابُ أن المقصود من قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين ، ثم يرزقهما ، أو يتركهما شيخين ، ويرزقهما الولد ، مع الشيخوخة ؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 89 ، 90 ] .

وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة .

وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر ، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الشيطان ، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس{[21439]} من الله تعالى ، بل من الشيطانِ يسخر منك ، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال : " ربّ ، أنّى يكُون لي غلامٌ " ، وغرض السدي من هذا أن زكريا -عليه السلام- لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى ، لما جاز له أن يقول ذلك ، فارتكب هذا .

وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق ؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان ، لجوَّزوا في سائره ، ولزالتِ الثقة{[21440]} عنهم في الوحي ، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا .

ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر ، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور{[21441]} ، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها .

والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه :

الأول : أن قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى } .

ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له ، بل يحتمل أن يكون زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- راعى الأدب ، ولم يقل : هذا الغلام ، هل يكون ولداً لي ، أم لا ، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة ؛ حتى أنَّ تلك البشارة ، إنْ كانت بالولد ، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام ، ويجعل الكلام صريحاً ، فلمَّا ذكر ذلك ، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه ، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا ، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه .

الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك ، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته ، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير ، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك ! تعظيماً وتعجُّباً .

الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه ؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام ؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر ، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت { قَالَتْ يا ويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] فأزيل تعجبها بقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ، وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير .


[21436]:ينظر: الإملاء 2/111.
[21437]:ينظر في قراءتها: السبعة 407، والنشر 2/317، والحجة 439، والإتحاف 2/234، والمحتسب 2/39، والحجة للقراء السبعة 5/191، 192، وإعراب القراءات 2/11.
[21438]:ينظر: الفخر الرازي 21/160.
[21439]:في أ: السورة ليس.
[21440]:في أ: المشقة.
[21441]:في أ: السورة.