ثم بين - سبحانه - الحكمة التى من أجلها جعل القرآن ميسرا فى حفظه وفهمه فقال : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } .
أى : إننا أنزلنا هذا القرآن على قلبك - أيها الرسول الكريم - وجعلناه بلسانك العربى المبين ، وسهلنا حفظه وفهمه على الناس ، { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين } الذين امتثلوا أمرنا واجتنبوا نهينا { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } أى : ذوى لدد وشدة فى الخصومة بالباطل ، وهم مشركو قريش فقوله { لُّدّاً } جمع ألد ومنه قوله - تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } أى أشد الناس خصومة وجدلاً .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وقوله - سبحانه - : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
وقوله : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } يعني : القرآن ، { بِلِسَانِكَ } أي : يا محمد ، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل ، { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ } أي : المستجيبين لله المصدقين لرسوله ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } أي : عوجًا عن الحق مائلين إلى الباطل .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { قَوْمًا لُدًّا } لا يستقيمون .
وقال الثوري ، عن إسماعيل - وهو السُّدِّي - عن أبي صالح : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } عوجًا عن الحق .
[ وقال الضحاك : هو الخصم ، وقال القرظي : الألد : الكذاب ]{[19181]}
وقال الحسن البصري : { قَوْمًا لُدًّا } صمًّا .
وقال غيره صم آذان القلوب{[19182]}
وقال قتادة : { قَوْمًا لُدًّا } يعني قريشًا .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { قَوْمًا لُدًّا } فجارًا ، وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد .
وقال ابن زيد : الألد : الظلوم ، وقرأ قول الله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [ البقرة : 204 ] .
وقوله : فإنّما يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشّر بِهِ المُتّقِينَ يقول تعالى ذكره : فإنّما يسّرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك تقرؤه ، لتبشر به المتقين الذين اتقوا عقاب الله ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصبه ، بالجنة . وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا يقول : ولتنذر بهذا القرآن عذاب اللّه قومكَ من قريش ، فإنهم أهل لَددَ وجدل بالباطل ، لا يقبلون الحقّ . واللّدّ : شدّة الخصومة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لُدّا قال : لا يستقيمون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا يقول : لتنذر به قوما ظَلَمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا : أي جدالاً بالباطل ، ذوي لَددَ وخصومة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال : فُجّارا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله قَوْما لُدّا قال : جدالاً بالباطل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال : الألدّ : الظلوم ، وقرأ قول الله : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ .
حدثنا أبو صالح الضراريّ ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ : وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال : صْما عن الحقّ ،
حدثني ابن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن هارون ، عن الحسن ، مثله .
وقد بيّنا معنى الألدّ فيما مضى بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
إيذان بانتهاء السورة ، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه . وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام . فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم .
فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور ، كأنه قيل : بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلاّ للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد . وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك » .
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله : { لقد أحصاهم وعدم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } [ مريم : 94 ، 95 ] . ووعد المؤمنين بقوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً } [ مريم : 96 ] . والمفرّع هو مضمون { لِتُبَشر به } الخ { وتُنْذِر به } الخ ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئتَ به من النذارة ، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلاّ لذلك .
وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السيّاق مثل : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] . وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن . وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة ، كقوله تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 32 ] .
واللّسان : اللّغة ، أي بلغتك ، وهي العربية ، كقوله : { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 192 195 ] ؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب .
وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّاً لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة ، أي أهل تصميم على باطلهم ، فاللّدُ : جمع ألدّ ، وهو الأقوى في اللّدد ، وهو الإباية من الاعتراف بالحق . وفي الحديث الصحيح : " أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصِم " ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللّدد ، قال بعضهم في رثاء البعض :
إن تحتَ الأحجار حزماً وعزماً *** وخصيماً ألدّ ذا مِغلاق
وقد حَسُن مقابلة المتقين بقوم لدّ ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولَدَد .
وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، كما قال تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] .
وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم ، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم ، كما تقدم في قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) ، وقوله تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في سورة يونس ( 101 ) .