الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا} (97)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

فإنّما يسّرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك تقرأه، لتبشر به المتقين الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، بالجنة.

"وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا" يقول: ولتنذر بهذا القرآن عذاب اللّه قومكَ من قريش، فإنهم أهل لَددَ وجدل بالباطل، لا يقبلون الحقّ. واللّدّ: شدّة الخصومة...

عن مجاهد، قوله: "لُدّا" قال: لا يستقيمون...

عن ابن عباس، قوله "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا" يقول: لتنذر به قوما ظَلَمة...

عن قتادة "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا": أي جدالاً بالباطل، ذوي لَددَ وخصومة... قال ابن زيد، في قوله: "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا" قال: الألدّ: الظلوم، وقرأ قول الله: "وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ"...

عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ: "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا" قال: صُما عن الحقّ.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فإنما يسرناه بلسانك} قال بعضهم: يسرنا له تبليغ الرسالة على لسانه حتى بلغها إلى الفراعنة منهم والأكابر الذين كانوا يقتلون من يخالفهم، ويستقبلهم بغير الذي هم عليه قولا وفعلا، ويعاقبونه على ذلك. يسر ذلك عليه حتى بلغها إلى أمثال هؤلاء، وقدر على ذلك من غير أن قدروا على إهلاكه حين أخبر أنه عصمه منهم بقوله: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]. وقال بعضهم: يسره على لسانه حتى قدر على التكلم به والنطق لأنه كلام رب العالمين. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يحتمل لأنه أنزله بلسانه ولسان العرب: فلا يحتمل ألا يقدروا على التكلم بلسانهم. وقال قائلون: يسره على لسانه حين جعله بحيث يحفظونه، ويقرؤونه عن ظهر قلوبهم، ليس كسائر الكتب المتقدمة التي كانوا لا يقدرون على حفظها وقراءتها عن ظهر القلب، والله أعلم.

{لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا} كقوله في آية أخرى: {إنما تنذر من اتبع الذكر} [يس: 11]... والأصل في النذارة أو البشارة أن البشارة إذا كانت خاصة لأحد فهي له على شرط الدوام على ذلك أبدا، وفيها النذارة له، إن لم يدم. وكذلك النذارة الخاصة لأحد لدوام ذلك ملتزما. فإن تاب، ورجع عن ذلك، فله فيها البشارة. على هذا تكون البشارة الخاصة، والنذارة الخاصة تكون في كل واحدة منهما أخرى. وأما البشارة المطلقة فهي بشارة لا تكون فيها النذارة، وكذلك النذارة المطلقة ولا تكون فيها البشارة. على هذه الأقسام تخرج البشارة والنذارة، والله أعلم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الكلام واحد والخطاب واحد، وهو لقوم تيسير، ولآخرين تخويف وتحذير فطوبى لِمَنْ يُسِّر لما وفِّق به، والويل لمن خُوِّف بل خُذِلَ فيه. والقومُ بين موفقٍ ومَخْذُولٍ.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه {بِلِسَانِكَ} أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه {لِتُبَشِّرَ بِهِ} وتنذر.

واللّد: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد؛ أي في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين} فهو كلام مستأنف بيّن به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين، فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر، ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين، لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين، ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى "لدا"...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظاً وعملاً سبباً لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات، والتخلي والتصون من السيئات، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب، وكان التقدير: والذين كفروا ليكسبنهم الجبار بغضاً وذلاًّ، فأخبر كلاًّ من الفريقين بما له بشارة ونذارة، قال مسبباً عن إفصاح ذلك وإفهامه: {فإنما يسرناه} أي هذا القرآن، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه {بلسانك} هذا العربي المبين، العذب الرصين {لتبشر به المتقين} وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية، فلا يبطلون حقاً ولا يحقون باطلاً، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتاب، بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين {وتنذر به قوماً لدّاً} أشد في الخصومة، يريدون العز بذلك، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشئ عن المقت المسبب عن مساوئ الأعمال، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم، والألد هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلاً، تكبراً عن قبوله...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يخبر تعالى عن نعمته تعالى، وأن الله يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يسر ألفاظه ومعانيه، ليحصل المقصود منه والانتفاع به، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بالترغيب في المبشر به من الثواب العاجل والآجل، وذكر الأسباب الموجبة للبشارة، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أي: شديدين في باطلهم، أقوياء في كفرهم، فتنذرهم. فتقوم عليهم الحجة، وتتبين لهم المحجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ثم توعدهم بإهلاك المكذبين قبلهم، فقال:...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.

فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور، كأنه قيل: بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلاّ للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك».

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله: {لقد أحصاهم وعدم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} [مريم: 94، 95]. ووعد المؤمنين بقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً} [مريم: 96]. والمفرّع هو مضمون {لِتُبَشر به} الخ {وتُنْذِر به} الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئتَ به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلاّ لذلك.

وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السيّاق مثل: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]. وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة، كقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 32].

واللّسان: اللّغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقوله: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 195]؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.

والباء للسببية أو المصاحبة.

وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّاً لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللّدُ: جمع ألدّ، وهو الأقوى في اللّدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح:"أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصِم"...

وقد حَسُن مقابلة المتقين بقوم لدّ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولَدَد.

وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، كما قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].

وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، وقوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101).

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

هاتان الآيتان جاءتا معقبتين على السياق السابق جميعه وخاتمة قوية للسورة. وقد تجمعت في أولاهما أهداف الرسالة المحمدية في تقريرها أن القرآن إنما أنزل بلسان النبي العربي؛ ليكون ميسور الفهم على الذين خوطبوا به لأول مرة وهم العرب، فيبشر الذين آمنوا واتقوا حتى يهنئوا ويطمئنوا، ولينذر الذين اتخذوا الخصومة والعناد والمكابرة ديدنا حتى يرتدعوا ويندمجوا في الرعيل المؤمن الصالح المتقي. وفي الآية على ما يتبادر معنى من معاني التسلية والتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم تكرر في آيات كثيرة، وهو أنه ليس مسؤولا عن الناس وهدايتهم وليس عليه إلاّ التبشير والإنذار.

أما الآية الثانية فقد أريد بها تذكير الكفار بأمثالهم الكثيرين من قبلهم الذين أهلكهم الله فلم يتحرك أحد منهم بحركة ولم ينبعث من أحد منهم صوت، كأنما أرادت الآية أن تقول إن هلاكهم كان شاملا جارفا. وتلهم روح الآية أن هذا لم يكن مجهولا عند السامعين. والآية الأولى دليل من الأدلة القرآنية القاطعة على أن لغة القرآن هي لغة العرب الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها كانت مألوفة ومفهومة كل الألفة والفهم من سوادهم الأعظم وهذا هو الذي يتسق مع مهمة الرسول التي تتناول خطاب جميع الطبقات والاتصال بهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الفاء هنا تفيد: ترتيب شيء عن شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب، فالمعنى: بشر المتقين، وأنذر القوم اللد لأننا يسرنا لك القرآن. ويسرنا القرآن: أي: طوعناه لك حفظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت توظفه في المهمة التي نزل من أجلها ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسره لما حفظه أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآيات، وحين يسري عنه يمليها على الصحابة، ويظل يقرأها كما هي، ولولا أن الله قال له: {سنقرئك فلا تنسى "6 "} (سورة الأعلى): ما تيسر له ذلك. ونحن في حفظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً، فالصبي في سن السابعة يستطيع حفظ القرآن وتجويده، فإن غفل عنه بعد ذلك تفلت منه، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه. إذن: مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على ود وألفة بكتاب الله ظل معك، وإن تركته وجفوته تفلت منك، كما جاء في الحديث الشريف: "تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها". ذلك؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق، إنما حروف القرآن ملائكة تصف، فتكون كلمة، وتكون آية، فإن وددت الحرف، ووددت الكلمة والآية، ودتك الملائكة، وتراصت عند قراءتك. ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إن أعملت عقلك في القرآن تتخبط فيها وتخطئ، فإن أعدت القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك...

وتلحظ هنا أن القرآن لم يأت باللفظ الصريح، إنما جاء بضمير الغيبة في {يسرناه} لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

ويبقى للقرآن دوره الخالد في حركة الدعوة إلى الله، في ما يتحدث به الرسل، وفي ما يثيره الدعاة في بلاغهم وفي حديثهم للناس..

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ} وسهلنا لك السبيل إلى فهمه ووعيه وتلاوته، تماماً كما لو كان حديثاً تهمس به في ذاتك أو يتحرك في وجدانك، لتستوعب معانيه في خط التبشير والإنذار، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} في ما ينتظرهم من الجنة ومن رضوان الله، جزاءً لطاعتهم وتقواهم وعبادتهم، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} والمراد باللدّ، جمع لدد، وهو الخصومة، أي لتحذر الذين يحترفون الجدل والنزاع والخصومة كأسلوب عملي في حياتهم، ولذلك فإنهم لا يفتحون قلوبهم لوحي الله، بعفوية الحقيقة وبساطتها، بل يتعقدون منه، ويعملون على إثارة الضوضاء من حوله في عملية هروب وإضلال...، ولذلك فإن مهمة الرسول ومن بعده من الدعاة، هو إحداث الصدمة القوية التي تهز القلب والرُّوح والوجدان، لتثير فيها الخوف والقلق في مستوى قضية المصير.

وهذا ما ينبغي أن يعيشه الحاملون للقرآن، الحافظون له، الذين يتحملون مسؤولية إبلاغه للناس، وذلك بأن يتحركوا به في المجتمع مبشرين ومنذرين، لا أن ينعزلوا به في دائرة ذواتهم وأشخاصهم بما لا يتعدى محيطهم، لأنهم لا يريدون أن يتحملوا مشاكل الدعوة، ونتائج المواجهة والمجابهة؛ إذ لو وقف الناس جميعاً هذا الموقف، ينتظرون بعضهم من يتسلم زمام المبادرة في ذلك، لمات القرآن في عقول الناس، ولانكمش في دائرة ضيقة من دوائر الواقع في الحياة العامة.

إن الإنذار لأمثال الناس المعقّدين المجادلين قد يفتح لهم أكثر من بابٍ للتفكير والتأمل والسؤال والانقياد في نهاية المطاف، ليدرسوا التاريخ وليتعرفوا حركة المستقبل الذي يتصل بحياتهم، في ما يأتي، ليعرفوا كيف يمكن لهم أن يضبطوا خطواتهم على الصراط المستقيم.