ثم أقام - سبحانه - الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
والمعنى : أنه - سبحانه - مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية ، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها ، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم ، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم ، ويعينهم على أعدائهم سواه ، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه .
وإذن فأنتم - أيها اليهود - ما قدرتم الله حق قدره ، لزعمكم أن النسخ محال على الله لأن المالك لكل شيء ، من حقه أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
فالآية واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من إحاطة قدرته - سبحانه - بكل شيء .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أوَ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه له ملك السموات والأرض حتى قيل له ذلك ؟ قيل : بلى ، فقد كان بعضهم يقول : إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا ، فيقول أحدهما لصاحبه : ألم أكرمك ؟ ألم أتفضل عليك ؟ بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه ، يريد أليس قد أكرمتك ؟ أليس قد تفضلت عليك ؟ بمعنى قد علمتَ ذلك .
قال : وهذا لا وجه له عندنا وذلك أن قوله جل ثناؤه ألَمْ تَعْلَمْ إنما معناه : أما علمت . وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام ، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات ، وإما بمعنى النفي . فأما بمعنى الإثبات فذلك غير معروف في كلام العرب ، ولاسيما إذا دخلت على حروف الجحد ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو معنّي به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه : { لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسمَعُوا } . والذي يدّل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم ، وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : { ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه ، وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح . أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره ، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره ، أو جماعة والمخاطب به أحدهم وعلى هذا الخطابُ للجماعة والمقصود به أحدهم ، من ذلك قول الله جل ثناؤه : { يا أيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الكافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ } ثم قال : { وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ إِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } ، فرجع إلى خطاب الجماعة ، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك قول الكُميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إلى السّرَاجِ المُنيرِ أحْمَدَ لا *** يَعْدِلُنِي رَغْبَةٌ وَلا رَهَبُ
عَنْهُ إلى غيرِهِ وَلَوْ رَفَعَ النّاس إليّ العُيُونَ وَارْتَقَبُوا
وقيلَ أفْرَطْتَ بَلْ قَصَدْتُ وَلَوْ *** عَنّفَنِي القائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا
لجّ بتَفْضِيلِكَ اللّسانُ وَلَوْ *** أُكْثِرَ فِيكَ الضّجاجُ واللّجَبُ
أنتَ المُصَفّي المحْضُ المهذّبُ في النّسْبةِ إنْ نَصّ قوْمَكَ النّسَبُ
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قاصد بذلك أهل بيته ، فكني عن وصفهم ومدحهم بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن بني أمية بالقائلين المعنفين لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبيّ صلى الله عليه وسلم وتفضيله ، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله . وكما قال جميل بن معمر :
ألا إنّ جِيرَانِي العَشِيّةَ رَائِحُ *** دَعَتْهُمْ دَوَاعٍ مِنْ هَوًى وَمَنَادِحُ
فقال : «ألا إن جيراني العشية » فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه ، ثم قال : «رائح » لأن قصده في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم . وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى :
خَلِيلَيّ فِيما عِشْتُما هَلْ رأيْتُما *** قَتِيلاً بَكَى مِنْ حُبّ قاتِلِهِ قَبْلِي
وهو يريد قاتلته لأنه إنما يصف امرأة فكني باسم الرجل عنها وهو يعنيها . فكذلك قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنه مقصود به قصد أصحابه وذلك بيّنٌ بدلالة قوله : { وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } الاَيات الثلاث بعدها على أن ذلك كذلك .
أما قوله : { لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ } ولم يقل ملك السموات ، فإنه عنى بذلك مُلْك السلطان والمملكة دون المِلْك ، والعرب إذا أرادت الخبر عن المملكة التي هي مملكة سلطان قالت : مَلَك الله الخلق مُلْكا ، وإذا أرادت الخبر عن الملك قالت : مَلَك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلْكا وَمَلِكَةً ومَلْكا .
فتأويل الآية إذا : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهي عما أشاء ، وأنسخ وأبدّل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقرّ منها ما أشاء ؟ هذا الخبر وإن كان من الله عزّ وجلّ خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوّة عيسى ، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لمجيئهما بما جاءا صلى الله عليه وسلم به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة . فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه ، وإن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء ، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء ، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه : انقادوا لأمري ، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك ، فلا أنسخ من أحكامي وحدودي وفرائضي ، ولا يهولنّكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي ، فإنه لا قيّم بأمركم سواي ، ولا ناصر لكم غيري ، وأنا المنفرد بولايتكم والدفاع عنكم ، والمتوحد بنصرتكم بعزّي وسلطاني وقوّتي على من ناوأكم وحادّكم ونصب حرب العداوة بينه وبينكم ، حتى أُعلي حجتكم ، وأجعلها عليهم لكم .
والوليّ معناه «فعيل » ، من قول القائل : وليت أمر فلان : إذا صرت قَيّما به فأنا إليه فهو وليه وقَيّمه ومن ذلك قيل : فلان ولي عهد المسلمين ، يعني به : القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين . وأما النصير فإنه فعيل من قولك : نصرتك أنصرك فأنا ناصرك ونصيرك وهو المؤيد والمقوّي .
وأما معنى قوله : مِنْ دُونِ اللّهِ فإنه سوى الله وبعد الله . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللّهِ مِنْ وَاقِي *** وَما عَلى حَدَثانِ الدّهْرِ مِنْ باقِي
يريد : ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره .
فمعنى الكلام إذا : وليس لكم أيها المؤمنون بعد الله من قيم بأمركم ولا نصير فيؤيدكم ويقوّيكم فيعينكم على أعدائكم .
وقوله : { ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } قال البيضاوي : هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديراً على كل شيء ولذا فصلت هذه الجملة عن التي قبلها . وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار تعديداً على المخاطب .