فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ} (107)

{ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } .

{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } هذه الآية تفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته وفيه دليل على جواز النسخ والاستفهام على التقرير وهكذا قوله { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } أي له التصرف فيهما بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها ، وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا وإن كان خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه فيه تكذيب لليهود المنكرين للنسخ .

{ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } بينهما عموم وخصوص من وجه فإن الولي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور ، وفيه إشارة إلى تعلق الخطابين السابقين بالأمة أيضا ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال .

وقد ذهب جمهور أهل الأصول إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة وخالف في ذلك الشافعي وتابعه على ذلك طائفة ، واختلف المانعون فمنهم من منعه عقلا كالحرث المحاسبي وعبد الله بن سعيد القلانسي ، وهو رواية عن أحمد ابن حنبل ، ومنهم من منعه سمعا كالشيخ أبي حامد الإسفرايني ، احتج الجمهور بأن التكليف بمتواتر السنة كالتكليف بالآية القرآنية وبأن ذلك قد وقع في هذه الشريعة المطهرة ، واحتج الآخرون بقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وتقرير الدلالة من وجهين .

أحدهما أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرا أو مثلا ، والسنة ليست كذلك .

ثانيهما : أنه قال { نأت } والضمير لله سبحانه ، فيجب أن لا ينسخ إلا بما يأتي به الله وهو القرآن .

وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد بقوله نأت بخير منها أو مثلها أي بحكم خير منها أو مثلها في حق المكلف باعتبار الثواب وهذا صحيح ، ولا يخالفه الضمير في قوله { نأت } فإن القرآن والسنة جميعا من عند الله سبحانه ، قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } والكلام في المسألة طويل وهو مدون في الأصول بما لا يتسع المقام لبسطه ، فالحق الجواز .

وأما نسخ الكتاب بما صح من آحاد السنة فقد منعه الجمهور لأن الآحاد لا تفيد القطع والكتاب مقطوع به ، وذهب جماعة من متأخري الحنفية إلى جواز نسخ القرآن بالخبر المشهور ، وقال في جمع الجوامع أن نسخ القرآن بالآحاد جائز غير واقع ، وقال أبو بكر الباقلاني والغزالي وأبو عبد الله البصري أنه جائز في عصره صلى الله عليه وسلم لا بعده ، وذهب جمع من الظاهرية إلى جوازه ووقوعه .

وأقول أن النزاع إن كان في قطعية المتن فلا شك أن القرآن كذلك وما صح من آحاد السنة ليس بقطع ، وإن النزاع في الدلالة فإن كان القرآن المنسوخ عموما أو محتملا فدلالته ظنية كدلالة ما صح من الآحاد ، والذي يصلح أن يكون محلا للنزاع هنا هو الثاني لا الأول ، على أنه قد وقع نسخ القطعي بالظني فإن استقبال البيت المقدس ثبت ثبوتا قطعيا متواترا ، ثم أن أهل قباء استداروا إلى الكعبة وهم في الصلاة بخبر واحد ، ولم ينكر عليهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك ثبت نسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وسلم ( لا وصية لوارث ) وكذلك نسخ قوله تعالى { لا يحل لك النساء من بعد } بقول عائشة رضي الله عنها ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما يشاء ، ونسخ قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية بنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب ، والكلام في هذا يطول ومحله مطولات كتب الأصول ، فإن استيفاء الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى رسالة مستقلة والله أعلم .

وعدة الآيات المنسوخات قد بلغها بعضهم إلى خمسمائة آية لكن قال الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي وعلى ما حررنا لا يتعين النسخ إلا في خمس آيات انتهى ، وعندي أنا في هذه الخمس نظرا أيضا كما بينته في دليل الطالب .

وأما الأحاديث المنسوخة فعدتها عند ابن الجوزي أحد وعشرون حديثا وعند الحافظ ابن القيم أقل من عشرة أحاديث كما أفاد في أعلام الموقعين وقال النسخ الواقع في الأحاديث الذي جمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة ولا شطرها انتهى {[113]} .

وقال الزرقاني في شرح الموطأ ، مذهب المحدثين والأصوليين والفقهاء أنه متى أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع انتهى ، وفي الدراسات لمحمد معين : قد تكلمت على بطلان النسخ الاجتهادي في أجزاء مفردة سميتها غاية الفسخ لمسألة النسخ ، وهو الأكثر في دعاوي المتأخرين لا سيما الفقهاء الحنفيين ، والنسخ المعول عليه عند المتقدمين هو المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما غيره فتعدية وتجاوز من التعبد إلى التشريع انتهى وتفصيل ذلك ذكرناه في إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ .


[113]:وقد كثرت الصنفات حول الناسخ والمنسوخ منها فيضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن أخبار أهل الرسوخ لابن الجوزي الناسخ والمنسوخ من كتاب الله وغيرهما فليرجع إليها.