محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ} (107)

{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من وليّ ولا نصير 107 } .

{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } فهو يملك أموركم ويدبّرها ، وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ أو منسوخ . { وما لكم من دون الله من وليّ } يلي أموركم{ ولا نصير } ناصر يمنعكم من العذاب .

وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة ، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم – في أمر من أمور دينهم أو دنياهم- إلا ما هو خير لهم ، والعمل بموجبه –من الثقة به ، والتوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه . من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود ، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة . فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته . عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء . والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد ، وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة .

وقد ذكر العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في ( إظهار الحق ) أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل . فارجع إليها في الباب الثالث منه .

تنبيهان

الأول : قال بعض الفضلاء : نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . وفي الآية رد عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق : تهيؤ النفوس لأرقى منه . وهو معنى قوله تعالى : { نأت بخير منها } لأن الخالق تعالى ربّى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها – بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلا في قرون عديدة . لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره . وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حدٍّ سواء . فإنك لو نظرت في الكائنات الحية – من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار ، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان- لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية والأدبية معا . . ! فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشابّ ، فكهل فشيخ ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار – من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها - يريك بأجلى دليل : أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب – وهم في مبدأ أمرهم – بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري . . ؟ ! وإذا كان هذا يصح ، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال ، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود . . ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله – وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلف الأمة –وهي في دور طفوليتها - بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها . . ؟ وأي الأمرين أفضل : أشَرْعُنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمه – بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه - لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان . . ؟ ! أم شرائع دينية أخرى ، حرّفها كهانها ، ونسخ الوجود أحكامها بحيث يستحيل العمل بها لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه . . ؟ !

الثاني : أسلفنا في مقدمة التفسير إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف ، بما ينبغي مراجعته .