ثم وبخ - سبحانه - كفار مكة ، بسبب عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } .
والقرون : جمع قرن ، وهم القوم المتقرنون فى زمن واحد . و " كم " خبرية بمعنى كثير .
أى : ألم يعلم كفار مكة أننا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واستهزائهم برسلهم ، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إليهم ليخبروهم بما جرى لهم ؛ لأنهم لن يستطيعوا ذلك فى الدنيا ، لحكمة أرادها الله - تعالى - .
( ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ) . .
ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون ، على مدار السنين وتطاول القرون . . لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر . ولكن العباد البائسين لا يتدبرون . وهم صائرون إلى ذات المصير . فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف ? !
إن الحيوان ليرجف حين يرى مصرع أخيه أمامه ؛ ويحاول أن يتوقاه قدر ما يستطيع . فما بال الإنسان يرى المصارع تلو المصارع ، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق ? والغرور يملي له ويخدعه عن رؤية المصير المطروق ! وهذا الخط الطويل من مصارع القرون معروض على الأنظار ولكن العباد كأنهم عمي لا يبصرون !
ثم قال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } أي : ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل ، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة ، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من{[24736]} قولهم : { إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } [ المؤمنون : 37 ] ، وهم القائلون بالدور من الدهرية ، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها ، فرد الله تعالى عليهم باطلهم ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ألم ير هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم بتكذيبهم رسلنا ، وكفرهم بآياتنا من القرون الخالية أنّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ يقول : ألم يَرَوا أنهم إليهم لا يرجعون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونَ أنّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ قال : عاد وثمود ، وقرون بين ذلك كثير .
و«كم » من قوله : كَمْ أهْلَكْنَا في موضع نصب إن شئت بوقوع يروا عليها . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنا » وإن شئت بوقوع أهلكنا عليها وأما «أنهم » ، فإن الألف منها فتحت بوقوع يروا عليها . وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها على وجه الاستئناف بها ، وترك إعمال «يروا » فيها .
هذه الجملة بيان لجملة { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئؤن } [ يس : 30 ] لما فيها من تفصيل الإِجمال المستفاد من قوله : { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين ، فعدمُ اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقه .
وضمير { يَرَوا } عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر . والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفاً ، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولَها ، فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله : { قَبْلَهُم } يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها .
وقيل : يجوز أن يكون ضمير { أَلم يَروا } عائداً إلى ما عاد إليه ضمير { واضْرِب لهُمْ مَثَلاً } [ يس : 13 ] ويكون المثَل قد انتهى بجملة { ياحَسْرَةً على العِبَادِ } [ يس : 30 ] الآية . وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة { واضْرِب لهم مَثَلاً } كما عطفت جملة { وءَايَةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها } [ يس : 33 ] الآية ، وجملة { وءاية لهم اللَّيْل نسلَخُ منه النهار } [ يس : 37 ] ، وجملة { وءايةٌ لهم أنَّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] ، ولا مُلجىء إلى هذا الاعتبار في المعاد ، وقد علمت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم .
والاستفهام يجوز أن يكون إنكارياً ؛ نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزلة عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور ، ويجوز كون الاستفهام تقريرياً بُني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلا الإِقرار بأنهم عالمون فيكون إقرارهم أشد لزوماً لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك .
والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهوداً لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها . وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود { كم } لأن { كم } لها صدر الكلام سواء كانت استفهاماً أم خبراً ، فإن { كم } الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده .
و { كم } في موضع نصب ب { أَهْلَكْنَا } ومفادها كثرة مبهمة فسّرت بقوله : { مِنَ القُرُونِ } ووقعت { كم } في موضع المفعول لقوله : { أَهْلَكنا } .
و { قَبْلَهُم } ظرف ل { أهْلَكْنَا } ومعنى { قَبْلَهُم : } قبل وجودهم .
وقوله : { أنَّهُم إليهم لا يَرْجِعون } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } لأن الإِهلاك يشتمل على عدم الرجوع ؛ أبدل المصدر المنسبك من « أنَّ » وما بعدها من معنى جملة { كم أهلكنا قبلهم من القرون } لأن معنى تلك الجملة كثرة الإِهلاك أو كثرة المهلكين . وفعل الرؤية عامل في { أنَّهم إليهِم لا يَرْجِعُونَ } بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة { كَمْ أهْلَكْنَا } لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل .
وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإِهلاك لزيادة التخويف ، ولاستحضار تلك الصورة في الإِهلاك أي إهلاكاً لا طماعية معه لرجوع إلى الدنيا ، فإن ما يشتمل عليه الإِهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحاً .
و{ إلَيْهِم } متعلق ب { يَرجِعون } وتقديمه على متعلقه للرعاية على الفاصلة .
وضمير{ إليهم } عائد إلى { العِبَادِ } [ يس : 30 ] ، وضمير { أنَّهُمْ } عائد إلى { القُرُونِ .