قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من{[46045]} تقدم منهم . قوله : { كم أهلكنا } كم هنا خبرية{[46046]} فهي مفعول «بأهلكنا » تقديره :كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة{[46047]} «ليَرَوْا » ذهاباً{[46048]} بالخبرية مذهب الاستفهامية ، وقيل : بل «يَرَوا » علمية و «كم » استفهامية كما سيأتي بيانه{[46049]} و { أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يرجعون } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من { كم }{[46050]} قال ابن عطية : و { كم } هنا خبرية و { أنهم } بدل منها ، والرؤية بصرية{[46051]} قال أبو حيان :وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية ( كانت ){[46052]} في موضع نصب «بأهلكنا » ، ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون { أنهم } بدلاً منها ؛لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت أهلكنا ( هم ) }{[46053]} على{ أنهم } لم يصح ؛ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن ( يَرُوْا ) مفعولة «كم » فتوهم أن قوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في ( عِلْم ){[46054]} العربية{[46055]} . قال شهاب الدين : وهذا{[46056]} الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول : كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون : «مَلَكْتُ كم عبدٍ »{[46057]} فلم يلزم الصدر{[46058]} فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل { كم } منصوبة «بيَرَوا » و { أنهم } بدل منها . وليس هو ضعيفاً في العربية{[46059]} حينئذ .
الثاني : أن { أنَّهُمْ } بدل من الجملة قبله . قال الزجاج{[46060]} : وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى . قال أبو حيان وليس بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو{[46061]} قال شهاب الدين : بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد مفعولي «يروا » فإنها معلقة لها كما تقدم{[46062]} .
الثالث : قال الزمخشري : أَلَمْ يَرَوا ألم يعلموا وهو{[46063]} معلَّقٌ عن العمل في { كَمْ } لأن { كم } لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام ( أو للخبر{[46064]} ، لأن أصلها الاستفهام ) إلا أنَّ معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك : ( ألَمْ يَرَوْا{[46065]} ) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و «أن » لم يعمل في لفظه و { أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون } بدل من { كَمْ أهلَكْنَا } على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم .
قال أبو حيان قوله :«لأن كم{[46066]} لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر » ليس على إطلاقه ؛لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو : عَلَى كَمْ جِذْع بَيْتُكَ ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ ؟ كَمْ فَقير تَصَدَّقْت أرجو الثواب ؟ وأين كم شهيد في سبل الله أحسنت إليه . وقوله أو الخبرية{[46067]} الخبرية فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار ، واللغة الأخرى حكاها الأخفش{[46068]} يقولون : مَلَكْت كَمْ غُلاَم أي :ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على كثيراً{[46069]} ، كذلك يجوز على «كم » لأنها بمعناها . وقوله : لأنها{[46070]} أصلها الاستفهام والخبرية ليس أصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل{[46071]} ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله : لأن معناها نافذ في الجملة يعني معنى { يَرَوْا } نافذ في الجملة لأنه جعلها معلقة وشرح «يروا » بيعملوا ، وقوله : كما نفذ في قولك : «أَلَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ » يعني : أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت «أن » فإن «إن » التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب ، وقوله : { أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ } إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى ، أما على اللفظ فإن زعم أن { يروا } معلقة فتكون كم استفهامية فهي معمولة «لأهْلَكْنَا » و «أهلكنا » لا يتسلط على{ أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } كما تقدم .
وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره : أي على ( هذا ){[46072]} المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ{[46073]} راجعين إليهم . فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون ( بدل بعض{[46074]} من كل ولا يكون ) بدل اشتمال ؛ لأن بدل الاشتمال يصح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا لا نقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ{[46075]} زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ .
الرابع : أن يكون أنهم بدلاً من موضع «كم أهلكنا » والتقدير : ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء{[46076]} ورده أبو حيان بأن «كم أهلكنا » ليس بمعمول{[46077]} «ليروا » . قال شهاب الدين : وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة{[46078]} لَهَا .
الخامس : وهو قول الفراء : أن يكون «يروا » عاملاً في الجملتين من غير{[46079]} إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز ؛
لأن «أنهم » ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه .
السادس : ( أن ){[46080]} { أنَّهُم } معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره : قَضَينَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول{[46081]} ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئناف{[46082]} والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها . فهما مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في{ أنهم } عائد على معنى كم{[46083]} ، وفي { إليهم } عائد على ما عاد عليه واو { يَرَوا } . ( وقيل{[46084]} : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا ) والثاني عائد على المُهْلَكِينَ{[46085]} .
المعنى : ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون ، والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي : لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون{[46086]} . وقيل : لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب{[46087]} ولا ولادة أي : أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّسل أتم وأعم . والأول أشبه نقلاً والثاني أظهر عقلاً{[46088]} .