وقوله - سبحانه - : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } زيادة فى تثبيت قلب النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه منهم من أذى .
أى : فإن لم يفعلوا ما تحديتهم به ، من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين .
{ فاعلم } - أيها الرسول الكريم - { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } الباطلة ، وشهواتهم الزائفة ، عندما يجادلونك فى شئون دعوتك .
والاستفهام فى قوله : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله . . } للنفى والإنكار .
أى : ولا أحد أضل ممن اتبع هواه وشيطانه ، دون أن تكون معه هداية من الله - تعالى - تهديه إلى طريق الحق ، لأن هذا الضال قد استحب العمى على الهدى . وآثر الغواية على الرشد .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } تذييل مبين لسنة الله - تعالى - فى خلقه .
أى : إنه - سبحانه - جرت سنته أن لا يهدى القوم الظالمين إلى طريق الحق بسبب إصرارهم على الباطل ، وتجاوزهم لكل حدود الحق والخير .
وهذه نهاية الإنصاف ، وغاية المطاولة بالحجة ، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر ، الذي لا يستند إلى دليل :
( فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
إن الحق في هذا القرآن لبين ؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة ، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده . وإنهما لطريقان لا ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم . وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق . ولا حجة من غموض في العقيدة ، أو ضعف في الحجة ، أو نقص في الدليل . كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .
( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ) . .
وهكذا جزما وقطعا . كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها . . إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولامعذرة ، متبعون للهوى ، معرضون عن الحق الواضح :
قال الله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ } أي : فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : بلا دليل ولا حجة { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } أي : بغير حجة مأخوذة من كتاب الله ، { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فإن لم يجبك هؤلاء القائلون للتوراة والإنجيل : سحران تظاهرا ، الزاعمون أن الحقّ في غيرهما ، من اليهود يا محمد ، إلى أن يأتوك بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما ، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، وأن الذي ينطقون به ، ويقولون في الكتابين ، قول كذب وباطل لا حقيقة له ، ولعل قائلاً أن يقول : أو لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما قال القائلون من اليهود وغيرهم في التوراة والإنجيل من الإفك والزور ، المسموهما سحرين : باطل من القول ، إلاّ بأن لا يجيبوه إلى إتيانهم بكتاب هو أهدى منهما ؟ قيل : هذا كلام خرج مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به المقول لهم أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل من كفار قريش ، وذلك أنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قريش : أو لم يكفر هؤلاء الذين أمروكم أن تقولوا : هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى ، بالذي أوتي موسى من قبل هذا القرآن ، ويقولوا للذي أنزل عليه وعلى عيسى سِحْرَانِ تَظاهَرَا فقولوا لهم إن كنتم صادقين أن ما أوتي موسى وعيسى سحر ، فأتوني بكتاب من عند الله ، هو أهدى من كتابيهما ، فإن هم لم يجيبوكم إلى ذلك فاعلموا أنهم كذبة ، وأنهم إنما يتبعون في تكذيبهم محمدا ، وما جاءهم به من عند الله أهواء أنفسهم ، ويتركون الحقّ وهم يعلمون . يقول تعالى ذكره : ومن أضلّ عن طريق الرشاد ، وسبيل السداد ممن اتبع هوى نفسه بغير بيان من عند الله ، وعهد من الله ، ويترك عهد الله الذي عهده إلى خلقه في وحيه وتنزيله إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالمِينَ يقول تعالى ذكره : إن الله لا يوفق لإصابة الحقّ وسبيل الرشد القوم الذين خالفوا أمر الله وتركوا طاعته ، وكذّبوا رسوله ، وبدّلوا عهده ، واتبعوا أهواء أنفسهم إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة ربهم .
معنى { فإن لم يستجيبوا لك } إن لم يستجيبوا لدعوتك ، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي ، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا اتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم .
ويجوز أن يراد بعدم الاستجابة عدم الإتيان بكتاب أهدى من القرآن لأن فعل الاستحابة يقتضي دعاء ولا دعاء في قوله { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } بل هو تعجيز ، فالتقدير : فإن عجزوا ولم يستجيبوا لدعوتك بعد العجز فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، أي لا غير . واعلم أن فعل الاستجابة بزيادة السين والتاء يتعدى إلى الدعاء بنفسه ويتعدى إلى الداعي باللام ، وحينئذ يحذف لفظ الدعاء غالباً فقلما قيل : استجاب الله له دعاءه ، بل يقتصر على : استجاب الله له ، فإذا قالوا : دعاه فاستجابه كان المعنى فاستجاب دعاءه . وهذا كقوله { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } في سورة [ هود : 14 ] .
و { أنما } المفتوحة الهمزة تفيد الحصر مثل ( إنما ) المكسورة الهمزة لأن المفتوحة الهمزة فرع عن المكسورتها لفظاً ومعنى فلا محيص من إفادتها مفادها ، فالتقدير فاعلم أنهم ما يتبعون إلا أهواءهم . وجيء بحرف ( إن ) الغالب في الشرط المشكوك على طريقة التهكم أو لأنها الحرف الأصلي . وإقحام فعل { فاعلم } للاهتمام بالخبر الذي بعده كما تقدم في قوله تعالى { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة [ الأنفال : 24 ] .
وقوله { أتبعه } جواب { فأتوا } أي إن تأتوا به أتبعه ، وهو مبالغة في التعجيز لأنه إذا وعدهم بأن يتبع ما يأتون به فهو يتبعهم أنفسهم وذلك مما يوفر دواعيهم على محاولة الإتيان بكتاب أهدى من كتابه لو استطاعوه فإن لم يفعلوا فقد حق عليهم الحق ووجبت عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن .
وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه ، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله { قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] . ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله . وقد فهم من قوله { فإن لم يستجيبوا } ومن إقحام { فاعلم } أنهم لا يأتون بذلك البتة وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب .
وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب وهو أنه لا أحد أشد ضلالاً من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله .
و { من } اسم استفهام عن ذات مبهمة وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم . وبهذا العموم صار تذييلاً وهو كقوله تعالى { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } في سورة [ البقرة : 140 ] .
وأطلق الاتباع على العمل بما تمليه إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيهاً للعمل بالمشي وراء السائر ، وفيه تشبيه الهوى بسائر ، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن عُلبة :
وقوله { بغير هدى من الله } الباء فيه للملابسة وهو في موضع الحال من فاعل { اتبع هواه } وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى لأن الهوى لا يكون ملابساً للهدى الرباني ولا صاحبه ملابساً له لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح .
وجعل الهدى من الله لأنه حق الهدى لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصوماً من الخلل والخطأ .
ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية ، على حسب تفاوت شدة الضلال . واتباع الهوى مع إلغاء إعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضرّ بدون تحديد ولا انحصار .
فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال فصاحبه أشد الضالين ضلالاً .
ثم ذيل هذا التدييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالاً فإنه الفريق الذين كانوا قوماً ظالمين ، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم .
والمراد بالظالمين : الكاملون في الظلم ، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس ، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان ، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقاباً منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه ، فهم أضل الضالين ، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفاوتهم في التصلب في ظلمهم ؛ فقد يستمر أحدهم زماناً على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان . ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس في الاستعداد لقبول الهدى ، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني .
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة . وهذا معنى قول الأيمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي .