ثم وجه - سبحانه - إليهم توبيخا آخر فقال : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } .
أى : وقيل لهؤلاء الكافرين على سبيل الفضيحة والتقريع : اطلبوا من شركائكم الذين توهمتم فيهم النفع والضر أن يشفعوا لكم ، أو أن ينقذوكم مما أنتم فيه من عذاب ، فطلبوا منهم ذلك لشدة حيرتهم وذلتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولم يلتفتوا إليهم .
{ وَرَأَوُاْ العذاب } أى : ورأى الشركاء والمشركون العذاب ماثلا أمام أعينهم .
و { لَوْ } فى قوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } شرطية ، وجوابها محذوف . والتقدير : لو أنهم كانوا فى الدنيا مهتدين إلى طريق الحق . لما أصابهم هذا العذاب المهين .
ويجوز أن تكون للتمنى فلا تحتاج إلى جواب ، ويكون المعنى . ورأوا العذاب . فتمنوا أن لو كانوا ممن هداهم الله - تعالى - إلى الصراط المستقيم فى الدنيا .
عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها . مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله :
ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم ! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم ! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم !
والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم ، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين :
( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) . .
ولم يكن منتظرا غير ذاك ، ولكنه الإذلال والإعنات !
رأوه في هذا الحوار . ورأوه ماثلا وراءه . فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب .
وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه ، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب : وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون :
{ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ }[ أي ]{[22394]} : ليخلصوكم مما أنتم فيه ، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ } أي : وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة .
وقوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } أي : فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا . وهذا كقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا . وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الكهف : 52 ، 53 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقيل للمشركين بالله الاَلهة والأنداد في الدنيا ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين كنتم تدعون من دون الله فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ يقول : فلم يُجيبوهم . ورأَوُا العَذَابَ : يقول : وعاينوا العذاب لَوْ أنّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ يقول : فودّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مُهتدين للحقّ .
ثم أخبر تعالى أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام الذين اعتقدوهم آلهة { ادعوا شركاءكم } أي الأصنام التي كنتم تزعمون أنهم شركاء الله ، وأضاف الشركاء إليهم لما كان ذلك الاسم بزعمهم ودعواهم ، فيهذا القول من الاختصاص أضاف الشركاء إليهم ، ثم أخبر أنهم دعوهم فلم يكن في الجمادات ما يجيب ورأى الكفار العذاب ، وقوله تعالى : { لو أنهم كانوا يهتدون } ذهب الزجاج وغيره من المفسرين إلى أن جواب { لو } محذوف تقديره لما نالهم العذاب ولما كانوا في الدنيا عابدين للأصنام ففي الكلام على هذا التأويل تأسف عليهم ، وذلك محتمل مع تقديرنا الجواب لما كانوا عابدين للأصنام وفي مع تقديرنا الجواب لما نالهم العذاب نعمة منا ، وقالت فرقة { لو } متعلقة بما قبلها تقديره فودّوا { لو أنهم كانوا يهتدون } .
هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } [ القصص : 62 ] فإن ذلك النداء كان توبيخاً لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى . فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول .
وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم ، أي وقال الله . والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس .
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم الشركة كما في آية الأنعام ( 94 ) { الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا . وقوله { فلم يستجيبوا لهم } هو محل التأييس المقصود من الكلام .
وأما قوله تعالى { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون : وجماع أقوالهم فيها أخذاً ورداً أن نجمعها في أربعة وجوه :
أحدها : أن يكون عطفاً على جملة { فلم يستجيبوا لهم } . والرؤية بصرية ، والعذاب عذاب الآخرة ، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئاً . وعلى هذا تكون جملة { لو أنهم كانوا يهتدون } مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة { ورأوا العذاب } .
الثاني : أن تكون الواو للحال والرؤية أيضاً بصرية والعذاب عذاب الآخرة ، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم : ادعوا شركاءكم لخلاصكم ، وتكون جملة { لو أنهم كانوا يهتدون } كذلك مستأنفة ابتدائية .
الثالث : أن تكون الرؤية علمية ، وحذف المفعول الثاني اختصاراً ، والعذاب عذاب الآخرة . والمعنى : وعلموا العذاب حائقاً بهم ، والواو للعطف أو الحال . وجملة { لو أنهم كانوا يهتدون } مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل : ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون ؟ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلاً لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة .
وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون { لو } حرف شرط وجوابها محذوفاً دل عليه حذف مفعول { يهتدون } أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً . والتقدير : لتخلصوا منه . وعلى الوجوه الثلاثة ففعل { كانوا } مزيد في الكلام لتوكيد خبر ( أنّ ) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكناً من نفوسهم ، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم . وصيغة المضارع في { يهتدون } دالة على التجدد فالاهتداء منقطع عنهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله .
الوجه الرابع : أن تكون { لو } للتمني المستعمل في التحسر عليهم . والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب ، وفعل { كانوا } حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي ، وصيغة المضارع في { يهتدون } لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته .
ووجه خامس عندي : أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا ، والكلام على حذف مضاف تقديره : ورأوا آثار العذاب .
والرؤية بصرية ، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم ( 45 ) { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } ؛ وجملة { لو أنهم كانوا يهتدون } شرط جوابه محذوف دل عليه { لو أنهم كانوا يهتدون } أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة { فلم يستجيبوا لهم } . فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية ، وكلها مقصودة ، فالآية من جوامع الكلم .