المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

29- وإذا أردتم دخول بيوت عامة غير مسكونة بقوم مخصوصين ، ولكم فيها حاجة كالحوانيت والفنادق ودور العبادة فلا حرج عليكم إن دخلتم بدون استئذان ، والله عالم أتم العلم بجميع أعمالكم الظاهرة والباطنة فاتقوا مخالفته .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

ولما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ، ليس فيها ساكن ، فأنزل الله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } أي : بغير استئذان ، { فيها متاع لكم } يعني منفعة لكم . واختلفوا في هذه البيوت ، فقال قتادة : هي الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم إليها ، فيجوز دخولها بغير استئذان ، والمنفعة فيها بالنزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحر والبرد . وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلونها للبيع والشراء وهو المنفعة . وقال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن . وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم أأدخل ؟ ثم يلج . وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك فله الدخول بغير استئذان ، { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

وقوله - سبحانه - : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } بمنزلة الاستثناء من الأحكام التى اشتملت عليها الآيتان السابقتان .

فقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت آية الاستئذان ، قال بعض الصحابة يا رسول الله . كيف بالبيوت التى بين مكة والمدنية والشام وبيت المقدس ، وهى على ظهر الطريق ، وليس فيها ساكن من أربابها ، فنزلت هذه الآية .

والمراد بالمتاع : التمتع والانتفاع بها .

أى : ليس عليكم - أيها المؤمنون - حرج أو إثم فى أن تدخلوا بغير استئذان بيوتا غير معدة لسكنى طائفة معينة من الناس ، بل هى معدة لينتفع بها من يحتاج إليها من دون أن يتخذها مسكنا له ، كالرباطات ، والفنادق ، والحوانيت ، والحمامات ، وغير ذلك من الأماكن المعدة للراحة المؤقتة لا للسكن والإقامة .

وقوله : { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أى : فيها حق تمتع وانتافع لكم ، كالوقاية من الحر والبرد . وكتبادل المنافع فيما بينكم بالبيع أو الشراء ، وغير ذلك مما يتناسب مع وظيفة هذه البيوت غير المسكونة .

وقوله - سبحانه - : { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد وتحذير آخل لأولئك الذين يدخلون البيوت ولا يرعون حرمتها ، بل يبيحون لعيونهم ولجوارحهم ، مالم تبحه آداب الإسلام ، وتعاليمه ، كالتطلع إلى العورات . وما يشبه ذلك من المقاصد السيئة .

أى : والله - تعالى - وحده يعلم ما تظهرونه وما تخفونه من أقوال وأعمال ، وسيحاسبكم عليها ، فاحذروا أن تسلكوا مسلكا لا يرضى خالقكم عنكم .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

1 - أن على كل إنسان - سواء أكان رجلا أم امرأة - أن يستأذن ويسلم قبل الدخول على غيره فى بيته ، لأن الله - تعالى - يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا . . . } فهذا نهى صريح عن الدخول بدون استئذان .

إلا أن جمهور الفقهاء يرون أن الطلب فى الاستئناس على سبيل الوجوب وفى السلام على سبيل الندب ، كما هو حكم السلام فى غير هذا الموطن .

2 - يرى بعض العلماء أن القادم يبدأ بالاستئذان قبل السلام ، كما جاء فى الآية الكريمة ، ويرى كثير منهم تقديم السلام على الاستئذان ، لأن الواو لا تستلزم الترتيب ، ولأن هناك أحاديث متعددة ، تفيد أن السلام مقدم على الاستئذان ، ومنها ما أخرجه الترمذى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " السلام قبل الكلام " .

وبعض العلماء فصل فى هذه المسألة فقال : إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت ، سلم أولا ثم استأذن فى الدخول ، وإن كان لا يرى أحدا منهم قدم الاستئذان على السلام .

وهذا الرأى وجاهته ظاهرة ، لأن فيه جمعا بين الأدلة .

3 - لا صحة لما ذكره بعضهم من أن أصل الآية " حتى تستأذنوا " ، وأن الكاتبين أخطأوا فى كتابتهم فكتبوا " حتى تستأنسوا " ، وذلك لأن جميع الصحابة أجمعوا على كتابة " حتى تستأنسوا " فى جميع نسخ المصحف العثمانى ، وعلى تلاوة الآية بلفظ " تستأنسوا " ومضى على ذلك إجماع المسلمين فى كل مكان ، سواء فى كتابتهم للمصحف أم فى قراءتهم له .

قال القرطبى : إن مصاحف الإسلام كلها ، قد ثبت فيها " حتى تستأنسوا " وصح الإجماع فيها من لدن عثمان ، فهى لا تجوز مخالفتها . وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب فى لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح .

. . وقد قال الله - تعالى - { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقال - سبحانه - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } سورة الحجر الآية 9 .

4 - ظاهر قوله - تعالى - : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ . . } أن الاستئذان غير مقيد بعدد ، إلا أن السنة الصحيحة قد بينت أن الاستئذان يكون ثلاث مرات فإن لم يؤذن له بعدها انصرف .

ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما رواه البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : " كنت فى مجلس من مجالس الأنصار ، إذ جاء أبو موسى - كأنه مذعور - فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لى فرجعت فقال : ما منعك - أى من الدخول - ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع . فقال لى : لتأتين بالبينة . فهل منكم أحد سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ؟ فقام معه أبى بن كعب ، فأخبر عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك " .

قال بعض العلماء : " والراجح أن الواجب إنما هو الاسئتذان مرة . فأما كمال العدد ثلاثا فهو حق المستأذن إن شاء أكمله ، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين . فقد ثبت أن عمر بن الخطاب استأذن على النبى صلى الله عليه وسلم مرتين ، فلم يؤذن له فرجع ، فتبعه غلام فقال له : ادخل فقد أذن لك النبى صلى الله عليه وسلم .

5 - ظاهر قوله - تعالى - { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يفيد أنهم ليس عليهم استئذان فى دخول بيوتهم . إلا أن هذا الظاهر يصح حمله على الزوجة . لأنه يجوز بين الزوج وزوجته من الأحوال مالا يجوز لأحد غيرهما ، ومع ذلك فإنه ينبغى أن يشعر الرجل زوجته بقدومه ، حتى لا يفاجئها بما تكره له أن يطلع عليه .

ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسره لهذه الآيات : وهذا - أى عدم الاستئذان على الزوجة - محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . . . ولهذا جاء فى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا .

وأما بالنسبة لغير زوجته ، كأمه ، وأخواته ، وبنيه وبناته البالغين ، فإنه يلزمه أن يستأذن عليهم ، لأنه إن دخل عليهم بدون استئذان ، فقد تقع علينه على ما لا يصح الاطلاع عليه .

ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى . ما أخرجه مالك فى الموطأ عن عطاء بن يسار ، " أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمى ؟ قال : " نعم ، قال : ليس لها خادم غيرى ، أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال صلى الله عليه وسلم أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا . . . قال : فاستأذن عليها " " .

وأخرج البخارى فى الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم ، لم يدخل عليه إلا بإذن .

6 - وردت أحاديث متعددة فى كيفية الاستئذان ، وفى التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن .

فمن آداب الاستئذان أن لا يقف المستأذن أمام الباب بوجهه . ولكنه يجعل الباب عن يمينه أو عن يساره ، ومن الأحاديث التى وردت فى ذلك ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : السلام عليكم .

كذلك من آداب الاستئذان أن لا يقول المستأذن " أنا " فى الرد على رب المنزل ، وإنما يذكر اسمه ، ففى صحيح البخارى عن جابر قال : أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فى دين كان على أبى ، فدققت الباب ، فقال : من ذا ؟ قلت : أنا . فقال أنا ، أنا ، كأنه كرهها " .

ولعل السر فى النهى عن الرد بلفظ " أنا " أن هذا اللفظ يعبر به كل واحد عن نفسه ، فلا تحصل به معرفة شخصية المستأذن ، والمقصود بالاستئذان الإفصاح لا الإبهام .

أما التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن ، فيكفى لذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذنك فحذفته - أى : - رميته - بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " " .

هذه بعض الأحكام والآداب التى تتعلق بالاستئذان ، ومنها نرى كيف أدب الإسلام أتباعه بهذا الأدب العالى ، الذى يؤدى التمسك به إلى غرس الفضائل ومكارم الأخلاق فى نفوس الأفراد والجماعات .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

27

فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن ، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان ، دفعا للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية :

( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) . .

( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . . فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم ؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم . وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب ، وامتثالها لذلك الأدب العالي ، الذي يأخذها الله به في كتابه ، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه .

/خ29

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } هذه الآية الكريمة أخصُّ من التي{[21030]} قبلها ، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد ، إذا كان له{[21031]} فيها متاع ، بغير إذن ، كالبيت المعد للضيف ، إذا أذن له فيه أول مرة ، كفى .

قال ابن جريج : قال ابن عباس : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ، ثم نسخ واستثني فقال { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } : وكذا روي عن عكرمة ، والحسن البصري .

وقال آخرون : هي بيوت التجار ، كالخانات{[21032]} ومنازل الأسفار ، وبيوت مكة ، وغير ذلك . واختار ذلك ابن جرير ، وحكاه ، عن جماعة . والأول أظهر ، والله أعلم .

وقال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشَّعر .


[21030]:- في أ : "الذي".
[21031]:- في ف ، أ : "لكم".
[21032]:- في أ : "في الخانات".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } .

يقول تعالى ذكره : ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان .

ثم اختلفوا في ذلك أيّ البيوت عَنَى ، فقال بعضهم : عَنعى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون ، وإنما بنيت لمارّة الطريق والسابلة ليأوُوا إليها ويُؤْوُوا إليها أمتعتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سالم المكّيّ ، عن محمد ابن الحنفية ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي الخانات التي تكون في الطرق .

حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا عمر بن فَرّوخ ، قال : سمعت قَتادة يقول : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي الخانات تكون لأهل الأسفار .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا ، فرُخّص لهم أن يدخلوها .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي البيوت التي ينزلها السّفْر ، لا يسكنها أحد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بُيُوتا غيرَ مسْكُونَةٍ قال : كانوا يصنعون أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة بغير شكّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، غير أنهقال : كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مسْكُونَةٍ هي البيوت التي ليس لها أهل ، وهي البيوت التي يكون بالطرق والخَرِبة . فِيها مَتاعٌ منفعة للمسافر في الشتاء والصيف ، يأوي إليها .

وقال آخرون : هي بيوت مكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن سعيد بن سائق ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن سالم بن محمد ابن الحنفية ، في : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي بيوت مكة .

وقال آخرون : هي البيوت الخَرِبة . والمتاع الذي قال الله لكم فيها قضاء الحاجة من الخلاء والبول فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء يقول : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : الخلاء والبول .

حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا حسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، في هذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : التخلّي في الخراب .

وقال آخرون : بل عني بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : بيوت التجار ، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن ، الحوانيت التي بالقَيساريات والأسواق . وقرأ : فِيها مَتاعٌ لَكُمْ متاع للناس ، ولبني آدم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عمّ بقوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةِ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ كلّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن لأن الإذن إنما يكون ليؤْنَس المأذون عليه قبل الدخول ، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا أو كان فيه ساكنا . فأما إن كان لا مالك له ، فيحتاج إلى إذنه لدخوله ولا ساكن فيه ، فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه ، لئلا يهجُم على ما لا يحبّ رؤيته منه ، فلا معنى للاستئذان فيه . فإذا كان ذلك ، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض ، فكلّ بيت لا مالك له ولا ساكن من بين مبنيّ ببعض الطرق للمارّة والسابلة ليأووا إليه ، أو بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه ، حيث كان ذلك ، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان ، لمتاع له يؤويه إليه أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك . وأما بيوت التجار ، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها .

فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس فقد أذِن لمن أراد الدخول عليه في دخوله ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه ، لا سيما إذا كان فيه متاع فإن كان التاجر قد عُرِف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول ، فذلك بعدُ رجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه . وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن من معنى قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ في شيء ، وذلك أن التي وضع الله عنا الجُناح في دخولها بغير إذن من البيوت ، هي ما لم يكن مسكونا ، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه وهو مع ذلك مسكون ، فتبين أنه مما عَنَى الله من هذه الآية بمعزل .

وقال جماعة من أهل التأويل : هذه الآية مستثناة من قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا على أهْلِها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتَكُمْ ثم نسخ واستثنى فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة : حتى تَستأنِسُوا . . . الآية ، فنُسخ من ذلك ، واستُثني فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ . وليس في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ دلالة على أنه استثناء من قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتأْنِسُوا لأن قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلى أهْلِها حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب . وقوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ حكم منه في البيوت التي لا سكان لها ولا أرباب معروفون ، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الاَخر ، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس ، فأما إذا لم يكن كذلك فلا معنى لاستثنائه منه . وقوله : وَاللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يقول تعالى ذكره : والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ، وَما تَكْتُمُونَ يقول : وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به : إطاعة الله والانتهاء إلى أمره ، أم غير ذلك ؟

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعاً خرباً ولا مسكوناً إلا سلم واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد ، لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال الحكم ، ومثل أهل التأويل من هذه البيوت أمثلة فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد هي الفنادق التي في طرق المسافرين ، قال مجاهد لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل و { فيها متاع } لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء في بيوت غير مسكونة بالخرب{[8669]} التي يدخلها الإنسان للبول والغائط ففي هذا أيضاً متاع ، وقال ابن زيد والشعبي هي حوانيت القيساريات{[8670]} والسوق ، وقال الشعبي لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلم ، ع وهذا قول غلط قائله لفظ المتاع ، وذلك أن بيوت القيسارية محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أُذن له بها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس عنها ، وقال محمد بن الحنفية أيضاً أراد تعالى دور مكة ، وهذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة ، وهذا هو في هذه المسألة القول الضعيف ، يرده قوله عليه السلام «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[8671]} وقوله «من دخل دار أبي سفيان » «ومن دخل داره »{[8672]} وغير ذلك من وجوه النظر وباقي الآية بين ظاهره التوعد .


[8669]:جمع خربة، وهي موضع الخراب، وفي حديث بناء مسجد المدينة: "كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر بالخرب فسويت".
[8670]:جاء في معجم البلدان للحموي أن "قيسارية" بالفتح ثم السكون وسين مهملة وبعد الألف راء وياء مشددة، ثم قال: "وهي بلد على ساحل بحر الشام في أعمال فلسطين بينها وبين طبرية ثلاثة أيام، وكانت قديما من أعيان أمهات المدن، وقيسارية أيضا مدينة "عظيمة كبيرة في بلاد الروم...". فالمراد إذا: المدن الكبيرة العظيمة المتسعة، والحوانيت جمع حانوت وهو دكان الخمار ومحل التجارة، فالمراد بالجملة: محلات التجارة في المدن الكبيرة.
[8671]:أخرجه البخاري، وأبو داود، ولفظه في البخاري في غزوة الفتح، عن أسامة ابن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين ننزل غدا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترك لنا عقيل من منزل؟) ثم قال: (لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن)، قيل للزهري ـ أحد رواة الحديث ـ: ومن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب.
[8672]:جاء هذا في فتح مكة، ورواه البخاري، ومسلم، وابن إسحق، وغيرهم، وهو حديث طويل، وفيه أبا سفيان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مع العباس فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا، قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن). (واللفظ عن السيرة النبوية لابن هشام).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان.

ثم اختلفوا في ذلك أيّ البيوت عنى؟

فقال بعضهم: عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون، وإنما بنيت لمارّة الطريق والسابلة، ليأووا إليها، ويؤووا إليها أمتعتهم... عن مجاهد:"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ" قال: كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا، فرُخِّص لهم أن يدخلوها... وقال آخرون: هي بيوت مكة...

وقال آخرون: هي البيوت الخربة والمتاع الذي قال الله فيها لكم قضاء الحاجة، من الخلاء والبول فيها...

وقال آخرون: بل عنى بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس...

قال ابن زيد، في قوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ "قال: بيوت التجار، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن، الحوانيت التي بالقيساريات والأسواق، وقرأ (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) متاع للناس، ولبني آدم...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عمّ بقوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ" كلّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن; لأن الإذن إنما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا، أو كان فيه ساكنا. فأما إن كان لا مالك له فيحتاج إلى إذنه لدخوله ولا ساكن فيه فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه، لئلا يهجم على ما لا يحبّ رؤيته منه، فلا معنى للاستئذان فيه. فإذا كان ذلك، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض، فكلّ بيت لا مالك له، ولا ساكن، من بيت مبنيّ ببعض الطرق للمارّة والسابلة؛ ليأووا إليه، أو بيت خراب، قد باد أهله ولا ساكن فيه، حيث كان ذلك، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان، لمتاع له يؤويه إليه، أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك، وأما بيوت التجار، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها.

فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه، أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه، لا سيما إذا كان فيه متاع، فإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن من معنى قوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ" في شيء، وذلك أن التي وضع الله عنا الجناح في دخولها بغير إذن من البيوت، هي ما لم يكن مسكونا، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه، وهو مع ذلك مسكون، فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.

وقال جماعة من أهل التأويل: هذه الآية مستثناة من قوله: "لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا"...

وليس في قوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ" دلالة على أنه استثناء من قوله: "لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا" ; لأن قوله: "لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب. وقوله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ" حكم منه في البيوت التي لا سكان لها، ولا أرباب معروفون، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الآخر، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس، فأما إذا لم يكن كذلك، فلا معنى لاستثنائه منه. وقوله: "وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ" يقول تعالى ذكره: والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة "وَمَا تَكْتُمُونَ" يقول: وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به إطاعة الله، والانتهاء إلى أمره، أم غير ذلك.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

رَفَعَ اللَّهُ الجُناحَ والحَرَجَ في الانتفاعِ بما لا يُسْتَضَرُّ به صاحبُه بغير إذْنِهِ كدخولِ أرضٍ للداخلِ فيها أغراضٌ لقضاءِ حاجته -ولا يجد طريقاً غير ذلك- إذا لم يكن في دخوله ضَرَرٌ على صاحبها، وجرى هذا مجرى الاستظلال بظِلَّ حائطٍ إذا لم يكن قاعداً في مِلْكِه، وكالنظر في المرآة المنصوبة في جدار غيره.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعاً خرباً ولا مسكوناً إلا سلم واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال الحكم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوي والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان، دفعا للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية.

(ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم)..

(والله يعلم ما تبدون وما تكتمون).. فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم. وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب، وامتثالها لذلك الأدب العالي، الذي يأخذها الله به في كتابه، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه.

إن القرآن منهاج حياة. فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية، ويمنحها هذه العناية، لأنه يعالج الحياة كليا وجزئيا، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج. فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا. ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة، والضيق بالمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات.. وهي عورات كثيرة، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة.. إنها ليست عورات البدن وحدها. إنما تضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد. وهي عورات المشاعر والحالات النفسية،فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!

ولكن كل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات، يدبرها الشيطان، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية، والقلوب الناصحة، هنا أو هناك!

ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله -عليه الصلاة والسلام.

أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي- بإسناده -عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال:زارنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في منزلنا فقال:"السلام عليكم ورحمة الله" فرد سعد ردا خفيا. قال قيس:فقلت:ألا تأذن لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ فقال:دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] "السلام عليكم ورحمة الله". فرد سعد ردا خفيا. ثم قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"السلام عليكم ورحمة الله". ثم رجع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأتبعه سعد فقال:يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام- فقال:فانصرف معه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يديه، وهو يقول: "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"... الخ الحديث.

وأخرج أبو داود -بإسناده- عن عبد الله بن بشر قال:كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول:"السلام عليكم. السلام عليكم". ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.

وروى أبو داود كذلك -بإسناده- عن هذيل قال:جاء رجل -قال عثمان:سعد- فوقف على باب النبي [صلى الله عليه وسلم] يستأذن. فقام على الباب -قال عثمان:مستقبل الباب- فقال له النبي [صلى الله عليه وسلم]: "هكذا عنك -أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر. "

وفي الصحيحين عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال:"لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح"...

"وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس -رضي الله عنهما، قال:قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال:نعم. فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال:تحب أن تراها عريانة؟ قلت:لا. قال:فاستأذن. قال:فراجعته أيضا. فقال:أتحب أن تطيع الله؟ قال:قلت:نعم. قال فاستأذن".

وجاء في الصحيح عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا.. وفي رواية:ليلا يتخونهم.

وفي حديث آخر أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قدم المدينة نهارا، فأناخ بظاهرها وقال: "انتظروا حتى ندخل عشاء- يعني آخر النهار -حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة".

إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصحابته، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء، المشرق بنور الله.

ونحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت. وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد يكون في البيت هاتف" تليفون "يملك أن يستأذن عن طريقه، قبل أن يجيء، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان، وعلى غير موعد. ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت- وقد جاء -مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار!

ونحن اليوم مسلمون، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام. فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا! ونطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!

ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إنما نحن عبيد لعرف خاطى ء، ما أنزل الله به من سلطان!

ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في النفس، وتقليدا من تقاليدنا في السلوك. فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا؛ ونتندر به أحيانا. ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل، فنفيء إليه مطمئنين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجاً إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

أما البيوت غير المسكونة، مما جرى العرف دخول الناس إليه لمنفعتهم دون إذن، كالمآوي التي يقصدها الطلبة للنزول، ومحطات الأسفار التي يقصدها المسافرون للاستراحة، وقيساريات التجار التي يقصدها الزبناء للبيع والشراء، والخرب العاطلة، التي يهرع إليها الحاقنون لقضاء الحاجة عند عدم وجود أماكن مخصصة لذلك، فلا يحتاج دخولها إلى الاستئذان، وكذلك البيوت المعدة للضيافة إذا أذن للضيف فيها أول مرة كفى، هذه بعض الأمثلة التي فسر بها المفسرون معنى قول الله تعالى هنا: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم} وبذلك أصبحت مستثناة من المساكن الخاصة، التي لا بد للراغب في دخولها من الاستئذان، ولو كان أهلها غائبين عن المكان.

والمراد "بالمتاع "الوارد في هذه الآية {فيها متاع لكم} عموم الانتفاع. وتحذيرا من استعمال هذه الرخصة في غير محلها، والتذرع بها إلى ما لم يأذن به الله قال تعالى معقبا عليها: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}..