وقوله - سبحانه - : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } بيان لنوع آخر من أنواع منافع الحيوان للانسان .
قال أبو حيان فى البحر ؛ والجمال مصدر جمل - بضم الميم - ، يقال رجل جميل وامرأة جميلة وجملاء ، قال الشاعر :
فهى جملاء كبدر طالع . . . بذت الخلق جميعا بالجمال
والجمال يكون فى الصورة بحسن التركيب ، بحيث يدركه البصر فتتعلق به النفس .
ويكون فى الأخلاق ، باشتمالها على الصفات المحمودة ، كالعلم والعفة والحلم .
ويكون فى الأفعال ، بوجودها ملائمة لمصالح الخلق ، وجلب المنفعة لهم وصرف الشر عنهم . . .
وجمال الأنعام من النوع الأول ، ومن جمالها - أيضا - كثرتها ودلالتها على أن صاحبها من أهل السعة واليسار .
وقوله { تريحون } من الإِراحة ، يقال : أراح فلان ماشيته إراحة ، إذا ردها إلى المراح ، وهو منزلها الذى تأوى إليه ، وتبيت فيه .
و { تسرحون } من السروح ، وهو الخروج بها غدوة من حظائرها إلى مسارحها ومراعيها .
يقال : سَرَحْت الماشية أسرحها سرحا وسروحا ، إذا أخرجتها إلى المرعى .
ومفعول الفعلين " تريحون وتسرحون " محذوف للعلم به .
والمعنى : ولكم - أيها الناس - فى هذه الأنعام جمال وزينة ، حين تردونها بالعشى من مسارحها إلى معاطنها التى تأوى إليها ، وحين تخرجونها بالغداة من معاطنها إلى مسارحها ومراعيها .
وخص - سبحانه - هذين الوقتين بالذكر ، لأنهما الوقتان اللذان تتراءى الأنعام فيهما ، وتتجاوب أصواتها ذهابا وجيئة ، ويعظم أصحابها فى أعين الناظرين إليها .
وقدم - سبحانه - الإِراحة على التسريح ، لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج ، حيث تقبل من مسارحها وقد امتلأت بطونها ، وحفلت ضروعها ، وازدانت مشيتها .
وقال - سبحانه - : { حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } . بالفعل المضارع ، لإِفادة التجديد والتكرار ، وفى ذلك ما يزيد السرور بها ، ويحمل على شكر الله - تعالى - على وافر نعمه .
قال صاحب الكشاف : " منَّ الله بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشى . بل هو من معاظمها ؛ لأن الرعيان إذا روحوها بالعشى ، وسرحوها بالغداة فزينت إراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، آنست أهلها ، وفرحت أربابها . وأجلتهم فى عيون الناظرين إليها ، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس .
فإن قلت : لم قدمت الإِراحة على التسريح - مع تأخر الإِراحة فى الوجود ؟ .
قلت : لأن الجمال فى الإِراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها " .
( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ )
وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح . جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحيحة سمينة . وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركه أهل المدينة .
وفي الخيل والبغال والحمير تلبية للضرورة وفي الركوب . وتلبية لحاسة الجمال في الزينة : ( لتركبوها وزينة ) .
وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة . فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ؛ بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات . تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان .
القول في تأويل قوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم }
يقول تعالى ذكره : ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم { جمال حين تريحون } يعني : تردونها بالعشي من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ؛ ولذلك سمي المكان المراح ، لأنها تراح إليه عشيا فتأوي إليه ، يقال منه : أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة . وقوله : { حين تسرحون } يقول : وفي وقت إخراجكموها غدوة من مراحها إلى مسارحها ، يقال منه : سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحا ، إذا أخرجها للرعي غدوة ، وسرحت الماشية : إذا خرجت للمرعى تسرح سرحا وسروحا ، فالسرح بالغداة والإراحة بالعشي ، ومنه قول الشاعر :
كأن بقايا الأتن فوق متونه *** مدب الدبى فوق النقا وهو سارح
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها ، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } قال : إذا راحت كأعظم ما تكون أسنمة ، وأحسن ما تكون ضروعا .
وقوله { جمال } أي في المنظر . و { تريحون } معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطاناً ممتلئة الضروع ، و { تسرحون } معناه تخرجونها غدوة إلى السرح ، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي ، كرجع رجعته ، وهذا «الجمال » هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته{[7249]} وهذا المعنى كقوله تعالى { المال والبنون زينة الحياة الدنيا }{[7250]} [ الكهف : 46 ] وقرأ عكرمة والضحاك «حينما تريحون حيناً تسرحون »{[7251]} ، وقرأت فرقة «وحيناً ترتحون » .