اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ} (6)

{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ .

ولما ذكر الأنعام ، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها ، وهي إما ضرورية ، أو غير ضرورية ، فبدأ بذكر المنافع الضرورية ؛ فقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى ، فقال سبحانه : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .

والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها ، ثم قال : " ومَنافِعُ " والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها .

ثم قال : { وَمِنْهَا تَأكُلُونَ } ، " مِنْ " ها هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ .

قال الزمخشري{[19701]} : " فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها ، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس ، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد ، فكغير المعتد به ؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ " .

قال ابن الخطيب{[19702]} : " ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها ؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر ، والحب والثّمار التي تأكلونها ، وتكتسبون بها ، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها ، وألبانها ، وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم " .

فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس ، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر ؟ .

فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم ؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام ، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ :

الأول : قوله { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } كقوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .

و " حِينَ " منصوب بنفس " جمالٌ " أو بمحذوفٍ ، على أنه صفة له ، أو معمولٌ لما عمل في " فِيهَا " أو في " لَكُمْ " .

وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري{[19703]} - رحمهم الله - : " حِيناً " بالتنوين ؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له ، والعائد محذوف ، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه ، كقوله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ]{[19704]} ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها ، بخلاف التسريح ؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر .

فصل

قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ :

الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية .

الثاني : منتهى الأجل ، قال : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] ، أي : إلى منتهى آجالهم .

الثالث : إلى ستة أشهر ، قال تعالى : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] .

الرابع : أربعون سنة ، قال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] .

أي : أربعون سنة ، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح .

والجمالُ : مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ ، وحكى الكسائي : جَمْلاء كحَمْرَاء ؛ وأنشد : [ الرمل ]

فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ *** بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ{[19705]}

ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة ، وسرح الإبل يسرحها سرحاً ، أي : أرسلها ، وأصله أن يرسلها لترعى ، والسَّرحُ : شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سرحةٌ ، قال أبيّ : [ الطويل ]

أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ *** عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ{[19706]}

وقال : [ الكامل ]

3299أ- بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ *** يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ{[19707]}

ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ ، واستعير أيضاً للطلاق ، يقال : سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها ، واعتبر من السَّرح المضي فقيل : ناقة [ سرحٌ ]{[19708]} ، أي : سريعة ، وقيل : [ الكامل ]

3299ب- سُرُحُ اليَديْنِ كَأنَّهَا . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحذف مفعولي " تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ " مراعاة للفواصل مع العلم بها .

فصل

الإراحةُ : ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، وسرح القوم إبلهم سرحاً ، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى .

قال أهل اللغة : هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأُ ، وخرجت العرب للنّجعةِ ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت .

ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وكثر فيها النفاء والرغاء ، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها .

والمنفعة الثانية قوله :


[19701]:ينظر: الكشاف 2/594.
[19702]:ينظر: الفخر الرازي 19/181.
[19703]:ينظر: الشواذ 72، والبحر 8/461، والدر المصون 4/313.
[19704]:في ب: التسرع.
[19705]:ينظر: اللسان والتاج والصحاح (جمل)، شرح المفصل 1/15، البحر المحيط 5/461، روح المعاني 14/99، الدر المصون 4/314.
[19706]:تقدم.
[19707]:تقدم.
[19708]:في ب: سرحة.