قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ، يقول الله تعالى : إذا أردنا أن نبعث الموتى فلا تعب علينا في إحيائهم ، ولا في شيء مما يحدث ، إنما نقول له : كن ، فيكون .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنبانا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنبانا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : كذبني ابن آدم ، ولم يكن ذلك له ، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له ، فأما تكذيبه إياي أن يقول : لن يعيدنا كما بدأنا ، وأما شتمه إياي أن يقول : اتخذ الله ولداً ، وأنا الصمد ، لم ألد ، ولم أولد ، ولم يكن لي كفواً أحد " .
وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } استئناف لتأكيد قدرة الله - تعالى - النافذة ، وشمولها لكل شئ من بعث وغيره ، وذلك لأن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم بأنه - سبحانه - لا يبعث الموتى ، ورد عليهم بما يبطل مزاعمهم ، أتبع ذلك ببيان أن قدرته - تعالى - لا يتعاصى عليها شئ ، ولا يحول دون نفاذها حائل .
قال الإِمام ابن كثير : " أخبر - سبحانه - عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له { كن فيكون } . والمراد من ذلك إذا أراد كونه ، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء ،
ثم أخبر تعالى عن قدرته{[16444]} على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وإنما أمره إذا{[16445]} أراد شيئًا أن يقول له : " كن " ، فيكون ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كما قال{[16446]} { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] وقال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { إِنَّمَا قَوْلُنَا{[16447]} لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، أي : أن يأمر به دفعة{[16448]} واحدة فإذا هو كائن ،
كما قال الشاعر{[16449]} :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنما *** يقول له : " كن " ، قولة فيكون
أي : أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف ، لأنه [ هو ]{[16450]} الواحد القهار العظيم ، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر{[16451]} الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال الله تعالى : سَبَّني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني ، فأما تكذيبه إياي فقال : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } قال : وقلت : { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } وأما سبه إياي فقال : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ، وقلت : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ]{[16452]} .
هكذا{[16453]} ذكره موقوفا ، وهو في الصحيحين مرفوعا ، بلفظ آخر{[16454]} .
القول في تأويل قوله تعالى { إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم ، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكوّن ونحدث لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه فإنما نقول له كن فيكون ، لا معاناة فيه ولا كُلفة علينا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «يكون » فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء ، وعلى أن قوله : إنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده ، ثم يبتدأ فيقال : «فيكونُ » ، كما قال الشاعر :
*** يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ ***
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين : «فَيَكُونَ » نصبا ، عطفا على قوله : أنْ نَقُولَ لَهُ . وكأن معنى الكلام على مذهبهم : ما قولنا لشيء إذا أردناه إلاّ أن نقول له : كن ، فيكون . وقد حُكي عن العرب سماعا : أريد أن آتيك فيَمْنَعَني المطر ، عطفا ب «يَمْنَعَني » على «آتيك » .
ثم قال { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد ، وإلا لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده ، ونصب ابن عامر و الكسائي ها هنا وفي " يس " فيكون عطفا على نقول أو جوابا للأمر .
هذه الجملة متّصلة بجملة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ سورة النحل : 38 ] لبيان أنّ جهلهم بمَدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم ، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فُصلت ، ووقعتْ جملة { ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ] إلى آخرها اعتراضاً بين البيان والمبيّن .
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلّق قدرته بتكوينه . وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء ، وما البعث إلا تكوين ، فما بَعْث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات ، فلا يخرج عن قدرته .
وأفادت { إنّما } قصراً هو قصر وقوع التّكوين على صدور الأمر به ، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذّر إحياء الموتى ظنّاً منهم أنّه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفاً ، فأريد ب { قولنا لشيء } تكوينُنا شيئاً ، أي تعلّق القدرة بخلق شيء . وأريد بقوله : { إذا أردناه } إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقاً تنجيزياً ، فإذا كان سبب التكوين ليس زائداً على قول { كن } فقد بطل تعذّر إحياء الموتى . ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين .
والشيء : أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده ، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه ، أو المرادُ بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة ، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل .
و { أن نقول له كن } خبر عن { قولنا } .
والمراد بقول { كن } توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور . عُبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ سورة يس : 82 ] وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور ، وشبّه انفعال الممكن لأمْرِ التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر . وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون ، وليس هو خطاباً للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعاً يعقل به الكلام فيمتثل للآمر .
وقرأ الجمهور { فيكون } بالرفع أي فهو يكون ، عطفاً على الخبر وهو جملة { أن نقول } . وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفاً على { نقول } ، أي أن نقول له كُن وأن يكون .