المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (40)

وقوله { إنما قولنا } الآية ، «إنما » في كلام العرب هي للمبالغة وتحقيق تخصيص المذكور ، فقد تكون مع هذا حاصرة إذا دل على ذلك المعنى ، كقوله تعالى { إنما الله إله واحد }{[7302]} [ النساء : 171 ] وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة »{[7303]} وقول العرب : إنما الشجاع عنترة ، فبقي فيها معنى المبالغة فقط ، و { إنما } في هذه الآية هي للحصر ، وقاعدة القول في هذه الآية أن تقول ، إن الإرادة والأمر اللذين هما صفتان من صفات الله تعالى القديمة ، هما قديمان أزليان ، وإن ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد ، لا إلى الإرادة ، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به ، لأن ذينك قديمان ، فمن أجل المراد عبر ب { إذا } وب { نقول } ، ويرجع الآن على هذه الألفاظ فتوضح الوجه فيها واحدة واحدة ، أما قوله { لشيء } فيحتمل وجهين : أحدهما أن الأشياء التي هي مرادة وقيل لها { كن } ، معلوم أن للوجود يأتي على جميعها بطول الزمن وتقدير الله تعالى ، فلما كان وجودها حتماً جاز أن تسمى أشياء وهي في حالة عدم ، والوجه الثاني أن يكون قوله { لشيء } تنبيهاً لنا على الأمثلة التي تنظر فيها ، أي إن كل ما تأخذونه من الأشياء الموجودة فإنما سبيله أن يكون مراداً وقيل له { كن } فكان ، ويكون ذلك الشيء المأخوذ من الموجودات مثالاً لما يتأخر من الأمور وما تقدم وفني ، فبهذا يتخلص من تسمية المعدوم شيئاً ، وقوله { أردناه } منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء ، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه ، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى : { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }{[7304]} [ التوبة : 105 ] ، وقوله تعالى : { وليعلم اللهُ الذين آمنوا }{[7305]} [ آل عمران : 140 ] ونحو هذا مما معناه ، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله { أن نقول } منزل منزلة المصدر ، كأنه قال قولنا ، ولكن { أن } مع الفعل تعطي استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية ، وكقوله تعالى { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره }{[7306]} [ الروم : 25 ] وغير ذلك ، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له ، كالمخاطب ، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق : { كن } بشرط الوقت والصفة ، وقال الزجاج { له } بمعنى من أجله ، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول ، وذهب قوم إلى أن قوله { أن نقول } مجاز ، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلاناً ، ورد على هذا المنزع أبو منصور ، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى ، وقرأ الجمهور «فيكونُ » برفع النون ، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس{[7307]} ، «فيكونَ » بنصبها ، وهي قراءة ابن محيصن{[7308]} .

قال القاضي أبو محمد : والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله ، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة ، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات ، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره .


[7302]:من قوله تعالى في الآية (171) من سورة (النساء): {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد}.
[7303]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، وابن ماجه ـ عن أسامة بن زيد، ورمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بالصحة.
[7304]:من الآية (105) من سورة (التوبة).
[7305]:من الآية (140) من سورة (آل عمران).
[7306]:من الآية (25) من سورة (الروم).
[7307]:من قوله تعالى في الآية (82): {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.
[7308]:قال القرطبي: في الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لو كان قوله: (كن) مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، و الثاني إلى ثالث وتسلسل، و كان محالا، وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها، والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه و لا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له، لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تحصل من غير قصد، و هو قول الطبيعيين، وهو فاسد.