اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (40)

ثم بين إمكان الحشر ، والنشر ؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء ، لا يتوقف على سبق مادة ، ولا مدة ، ولا آلة ؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله : " كُنْ " .

فقال { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده ؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته .

قوله : " وأقْسَمُوا " ظاهره أنه استئناف خبر ، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على " وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا " إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان ، وقوله " بَلَى " إثبات لما بعد النفي . قوله " وعْداً عَليْهِ حقًّا " هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أي : وعد ذلك وعداً وحق حقًّا .

وقيل : " حقًّا " نعت ل " وعْداً " والتقدير : بلى يبعثهم ، وعد بذلك وعداً حقًّا .

وقرأ الضحاك{[1]} : " وعْد عَليْهِ حَقٌّ " برفعهما ؛ على أنَّ " وعْدٌ " خبر مبتدأ مضمر ، أي : بلى يبعثهم وعد على الله ، و " حَقٌّ " نعت ل " وعْدٌ " .

قوله : " لِيُبَيِّنَ " هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب ، أي : بلى يبعثهم ، ليبيَّن ، وقوله " كُنْ فَيكُونُ " تقدم في البقرة ، " واللام " في " لِشيْءٍ " وفي " لَهُ " لام التبليغ ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما ، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله ، وليس بواضح .

وقال ابن عطية{[2]} : " وقوله " أنْ نَقُولَ " ينزَّل منزلة المصدر ، كأنه قال : قولنا ؛ ولكن " أنْ " مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله - سبحانه وتعالى- : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غير ذلك " .

قال أبو حيَّان{[3]} : وقوله : " ولكن " أنْ " مع الفعل يعني المضارع " وقوله : " في أغلب أمرها " ليس بجيدٍ ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها ، وقوله : " قد تجيء . . . إلى آخره " لم يفهم ذلك من دلالة " أنْ " وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ ، والأرض بأمر الله ؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى- .

ونظيره : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان .

قوله " قَولُنَا " مبتدأ ، و " أن نقُول " خبره ، و " كُنْ فَيكُونُ " : " كُنْ " من " كَانَ " التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا حدوث شيء ، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ .

وقرأ ابن{[4]} عامر ، والكسائي " فيكون " بنصب النون ، والباقون بالرفع .

قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله " أن نقُول له " كلاماً تاماً ، ثم يخبر عنه بأنه سيكون ، كما يقال : " إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ " برفع قولك " فَيَفْعَلُ " على أن تجعله كلاماً مبتدأ .

وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفاً على " أن نَقُول " والمعنى : أن نقول كن فيكون . هذا قول الجمهور .

وقال الزجاج : " ويجوز أن يكون نصباً على جواب " كُنْ " " .

ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر ، فليس القصد به ههنا الأمر ، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب " كُنْ " .

فإن قيل : قوله " كُنْ " إن كان خطاباً مع المعدوم ؛ فهو محالٌ ، وإن كان خطاباً مع الموجود ، كان أمراً بتحصيل الحاصل ؛ وهو محالٌ .

فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم ؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ ، وعلى ما أراده من الإسراعِ ، ولو أراد خلق الدنيا ، والآخرة بما فيهما من السماوات ، والأرض ، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك ؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون .

فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله

دلت هذه الآية على قدم القرآن ؛ لأنَّ قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فلو كان قوله حادثاً ؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون ، وذلك يوجب التسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ .

قال ابن الخطيب{[5]} : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :

أحدها : أنَّ كلمة " إذَا " لا تفيد التكرار ؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته : " إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ " فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة ، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية ، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار ؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون ، فلم يلزم التَّسلسلُ .

وثانيها : أن هذا الدليل إن صح ، لزم القول بقدم لفظ " كُنْ " وهذا معلوم البطلان بالضرورة ؛ لأنَّ لفظة " كُنْ " مركبة من الكاف والنُّون ، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تفوت الكاف ، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة " كُنْ " يمتنع كونها قديمة ، وإنَّما الذي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ]{[6]} للفظ : " كُنْ " فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية ؛ فسقط التمسك به .

ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ ، ولا على فعل ، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً ؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله ؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية ؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف ؛ فكذلك ما قالوه .

ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :

الأول : أن قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة ؛ فيكون محدثاً .

الثاني : أنه علق القول بكلمة " إذَا " وهي إنَّما تدخل للاستقبال .

الثالث : أن قوله تعالى : { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال .

الرابع : أن قوله " كن فَيكُونُ " كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد ؛ يجب أن يكون محدثاً .

الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] و { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] و { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] و { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 24 ] و { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } [ الأحقاف : 12 ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه ؟ .

قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثاً .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.