ثم بين إمكان الحشر ، والنشر ؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء ، لا يتوقف على سبق مادة ، ولا مدة ، ولا آلة ؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله : " كُنْ " .
فقال { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده ؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته .
قوله : " وأقْسَمُوا " ظاهره أنه استئناف خبر ، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على " وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا " إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان ، وقوله " بَلَى " إثبات لما بعد النفي . قوله " وعْداً عَليْهِ حقًّا " هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أي : وعد ذلك وعداً وحق حقًّا .
وقيل : " حقًّا " نعت ل " وعْداً " والتقدير : بلى يبعثهم ، وعد بذلك وعداً حقًّا .
وقرأ الضحاك{[1]} : " وعْد عَليْهِ حَقٌّ " برفعهما ؛ على أنَّ " وعْدٌ " خبر مبتدأ مضمر ، أي : بلى يبعثهم وعد على الله ، و " حَقٌّ " نعت ل " وعْدٌ " .
قوله : " لِيُبَيِّنَ " هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب ، أي : بلى يبعثهم ، ليبيَّن ، وقوله " كُنْ فَيكُونُ " تقدم في البقرة ، " واللام " في " لِشيْءٍ " وفي " لَهُ " لام التبليغ ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما ، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله ، وليس بواضح .
وقال ابن عطية{[2]} : " وقوله " أنْ نَقُولَ " ينزَّل منزلة المصدر ، كأنه قال : قولنا ؛ ولكن " أنْ " مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله - سبحانه وتعالى- : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غير ذلك " .
قال أبو حيَّان{[3]} : وقوله : " ولكن " أنْ " مع الفعل يعني المضارع " وقوله : " في أغلب أمرها " ليس بجيدٍ ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها ، وقوله : " قد تجيء . . . إلى آخره " لم يفهم ذلك من دلالة " أنْ " وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ ، والأرض بأمر الله ؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى- .
ونظيره : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان .
قوله " قَولُنَا " مبتدأ ، و " أن نقُول " خبره ، و " كُنْ فَيكُونُ " : " كُنْ " من " كَانَ " التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا حدوث شيء ، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ .
وقرأ ابن{[4]} عامر ، والكسائي " فيكون " بنصب النون ، والباقون بالرفع .
قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله " أن نقُول له " كلاماً تاماً ، ثم يخبر عنه بأنه سيكون ، كما يقال : " إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ " برفع قولك " فَيَفْعَلُ " على أن تجعله كلاماً مبتدأ .
وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفاً على " أن نَقُول " والمعنى : أن نقول كن فيكون . هذا قول الجمهور .
وقال الزجاج : " ويجوز أن يكون نصباً على جواب " كُنْ " " .
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر ، فليس القصد به ههنا الأمر ، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب " كُنْ " .
فإن قيل : قوله " كُنْ " إن كان خطاباً مع المعدوم ؛ فهو محالٌ ، وإن كان خطاباً مع الموجود ، كان أمراً بتحصيل الحاصل ؛ وهو محالٌ .
فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم ؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ ، وعلى ما أراده من الإسراعِ ، ولو أراد خلق الدنيا ، والآخرة بما فيهما من السماوات ، والأرض ، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك ؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون .
فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله
دلت هذه الآية على قدم القرآن ؛ لأنَّ قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فلو كان قوله حادثاً ؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون ، وذلك يوجب التسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ .
قال ابن الخطيب{[5]} : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :
أحدها : أنَّ كلمة " إذَا " لا تفيد التكرار ؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته : " إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ " فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة ، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية ، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار ؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون ، فلم يلزم التَّسلسلُ .
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح ، لزم القول بقدم لفظ " كُنْ " وهذا معلوم البطلان بالضرورة ؛ لأنَّ لفظة " كُنْ " مركبة من الكاف والنُّون ، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تفوت الكاف ، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة " كُنْ " يمتنع كونها قديمة ، وإنَّما الذي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ]{[6]} للفظ : " كُنْ " فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية ؛ فسقط التمسك به .
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ ، ولا على فعل ، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً ؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله ؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية ؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف ؛ فكذلك ما قالوه .
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة ؛ فيكون محدثاً .
الثاني : أنه علق القول بكلمة " إذَا " وهي إنَّما تدخل للاستقبال .
الثالث : أن قوله تعالى : { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال .
الرابع : أن قوله " كن فَيكُونُ " كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد ؛ يجب أن يكون محدثاً .
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] و { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] و { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] و { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 24 ] و { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } [ الأحقاف : 12 ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه ؟ .
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.