قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم } ، أي : كما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، كذلك نريه { ملكوت السموات والأرض } ، والملكوت : الملك ، زيدت فيه التاء للمبالغة ، كالجبروت والرحموت ، والرهبوت ، قال ابن عباس : يعني خلق السموات والأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض ، وذلك أنه أقيم على صخرة ، وكشف له عن ملكوت السموات والأرض حتى العرش ، وأسفل الأرضين ، ونظر إلى مكانه في الجنة ، فذلك قوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا } يعني : أريناه مكانه في الجنة . وروي عن سلمان رضي الله عنه ، ورفعه بعضهم عن علي رضي الله عنه : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فأراد أن يدعوا عليه فقال له الرب عز وجل : ( يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة ، فلا تدعون على عبادي ، فإنما أنا من عبدي على ثلاث خصال : إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني ، وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه ، وإن شئت عاقبته . ) وفي رواية : ( وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه ) . وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال ، والشجر ، والبحار .
قوله تعالى : { وليكون من الموقنين } ، عطف على المعنى ، ومعناه : نريه ملكوت السموات والأرض ، ليستدل به ، وليكون من الموقنين .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على خليله إبراهيم فقال - تعالى - { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } .
أى : وكما أرينا إبراهيم الحق فى خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك ، نريه - أيضا - مظاهر ربوبيتنا ، ومالكيتنا للسموات والأرض ، ونطلعه على حقائقها . ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل .
والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة . فتشمل المبصرات والمعقولات التى يستدل بها على الحق .
وإنما قال { نري إِبْرَاهِيمَ } بصيغة المضارع ، مع أن الظاهر أن يقول " أريناه " لاستحضار صورة الحال الماضية التى كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته - تعالى - فى ذلك الملكوت العظيم .
والملكوت : مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت ، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة فى الصفة ، والمراد به الملك العظيم وهو مخص بملكه - تعالى - كما قال الراغب فى مفرداته .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون ، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود :
( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين ) . .
بمثل هذه الفطرة السليمة ، وهذه البصيرة المفتوحة ؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق ، ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون ، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود ، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة ، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه ، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة ! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي ! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع ؛ والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها ، فيبينه لهم في رسالات الرسل ، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم ، وهي مناط الحساب والجزاء ، عدلا منه ورحمة ، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم ! خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : تبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله ، عَزَّ وجل ، في ملكه وخلقه ، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله{[10911]} { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ يونس : 101 ] ، وقال { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 185 ] ، وقال { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ سبأ : 9 ] .
فأما ما حكاه ابن جرير وغيره ، عن مجاهد ، وعَطاء ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي ، وغيرهم قالوا - واللفظ لمجاهد - : فرجت له السموات ، فنظر إلى ما فيهن ، حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع ، فنظر إلى ما فيهن - وزاد غيره - : فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعوا عليهم ، فقال الله له : إني أرحم بعبادي منك ، لعلهم أن يتوبوا وَيُرَاجِعُوا . وقد روى ابن مَرْدُوَيه في ذلك حديثين مرفوعين ، عن معاذ ، وعلي [ بن أبي طالب ]{[10912]} {[10913]} ولكن لا يصح إسنادهما ، والله أعلم . وروى ابن أبي حاتم من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فإنه تعالى جلا لَهُ الأمر ؛ سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا . فرده [ الله ]{[10914]} - كما كان قبل ذلك - فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره ، حتى رأى ذلك عيانا ، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه ، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة ، كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن معاذ بن جبل [ رضي الله عنه ]{[10915]} في حديث المنام : " أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا أدري يا رب ، فوضع كفه{[10916]} بين كتفي ، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت . . . " وذكر الحديث{[10917]}
وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } قيل : " الواو " زائدة ، تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين ، كقوله : { [ وَكَذَلِكَ ]{[10918]} نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 55 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وكَذَلِكَ : وكما أريناه البصيرة في دينه والحقّ في خلاف ما كانوا عليه من الضلال ، نريه ملكوت السموات والأرض ، يعني ملكه وزيدت فيه التاء كما زيدت في «الجبروت » من الجبر ، وكما قيل : رهبوت خير من رحموت ، بمعنى : رهبة خير من رحمة . وحكي عن العرب سماعا : له ملكوت اليمن والعراق ، بمعنى : له ملك ذلك .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ فقال بعضهم : معنى ذلك : نريه خلق السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ : أي خلق السموات والأرض .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ : أي خلق السموات والأرض ، وليكون من الموقنين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يعني بملكوت السموات والأرض : خلق السموات والأرض .
وقال آخرون : معنى الملكوت : الملك بنحو التأويل الذي أوّلناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرمة ، وسأله رجل عن قوله : وَكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : هو الملك ، غير أنه بكلام النبَط «ملكوتَا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي زائدة ، عن عكرمة ، قال : هي بالنبطية : «ملكوتا » .
وقال آخرون : معنى ذلك : آيات السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : آيات السموات والأرض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : آيات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : تفرّجت لإبراهيم السموات السبع . حتى العرش ، فنظر فيهن . وتفرّجت له الأرضون السبع ، فنظر فيهنّ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : وكَذَلِكَ نُرِى مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ قال : أقيم على صخرة ، وفتحت له السموات ، فنظر إلى مُلك الله فيها حتى نظر إلى مكانه في الجنة وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض ، فذلك قوله : وآتَيْناه أجْرَهُ فِي الدّنْيا يقول : آتيناه مكانه في الجنة . ويقال : أجره : الثناء الحسن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، قوله : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرّجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : كشف له عن أديم السموات والأرض حتى نظر إليهنّ على صخرة ، والصخرة على حوت ، والحوت على خاتم ربّ العزّة لا إله إلاّ الله .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، رأى عبدا على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ، فقال : أنزلوا عبدى لا يهلك عبادي
حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السموات ، أشرف فرأى عبدا يزنى ، فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزنى ، فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزنى ، فدعا عليه ، فنودي : على رَسْلك يا إبراهيم فإنك عبد مستجاب لك وإني من عبدى على ثلاث : إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه ذرّية طيبة ، وإما أن يتمادى فيما هو فيه ، فأنا من ورائه
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وحمد بن جعفر ، وعبد الوهاب ، عن عوف ، عن أسامة : أن إبراهيم خليل الرحمن حدّث نفسه أنه أرحم الخلق ، وأن الله رفعه حتى أشرف على أهل الأرض ، فأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي ، قال : اللهمّ دمّر عليهم فقال له ربه : أنا أرحم بعبادي منك ، اهبط فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويرجعوا
وقال آخرون : بل معنى ذلك ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : الشمس والقمر والنجوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفان ، عن منصور ، عن مجاهد : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : الشمس والقمر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يعني به : نريه الشمس والقمر والنجوم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : خُبِىء إبراهيمُ عليه السلام من جبار من الجبابرة ، فجُعل له رزقه في أصابعه ، فإذا مصّ أصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا . فلما خرج أراه الله ملكوت السموات والأرض فكان ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال والشجر والبحار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم عليه السلام فُرّ به من جبار مترف ، فجعل في سَرَب ، وجعل رزقه في أطرافه ، فجعل لا يمُصّ أصبعا من أصابعه إلاّ وجد فيها رزقا فلما خرج من ذلك السّرَب أراه الله ملكوت السموات ، فأراه شمسا وقمرا ونجوما وسحابا وخلقا عظيما وأراه ملكوت الأرض ، فأراه جبالاً وبحورا وأنهارا وشجرا ومن كلّ الدواب ، وخلقا عظيما .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى الله تعالى بقوله : وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنه أراه ملك السموات والأرض ، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابّ وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما ، وجلّى له بواطن الأمور وظواهرها لما ذكرنا قبل من معنى الملكوت في كلام العرب فيما مضى قبل .
وأما قوله : وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ فإنه يعني : أنه أراه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يتوحد بتوحيد الله ، ويعلم حقية ما هداه له وبصره إياه من معرفة وحدانيته وما عليه قومه من الضلالة من عبادتهم واتخاذهم آلهة دون الله تعالى .
وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك ، ما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ أنه جلى له الأمر سرّه وعلانيته ، فلم يَخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب ، قال الله : إنك لا تستطيع هذا ، فردّه الله كما كان قبل ذلك .
فتأويل ذلك على هذا التأويل : أريناه ملكوت السموات والأرض ، ليكون ممن يوقن علم كلّ شيء حسّا لا خبرا .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا أبو جابر ، قال : وحدثنا الأوزاعي أيضا قال : ثني خالد بن اللجلاج ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عياش يقول : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، فقال له قائل : ما رأيت أسعد منك الغداة قال : «وَمالي وَقَدْ أتانِي رَبي فِي أحْسَنِ صُورَةٍ ، فقال : ففِيمَ يَخْتَصِمُ الملأُ الأعْلَى يا مُحَمّدُ ؟ قُلْتُ : أنْتَ أعْلَمُ فَوضَعَ يَدَهُ بينَ كَتِفَيّ ، فَعَلِمْتُ ما فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ » . ثم تلا هذه الاَية : وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ .
{ وكذلك نري إبراهيم } ومثل هذا التبصير نبصره ، وهو حكاية حال ماضية . وقرئ : " ترى " بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية . { ملكوت السماوات والأرض } ربوبيتها وملكها . وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة . { وليكون من الموقنين } أي ليستدل وليكون ، أو وفعلنا ذلك ليكون .
وقوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام ، والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية ، أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت . و { نُري } لفظها الاستقبال ومعناها المضي ، وحكى المهدوي : أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه ، و { نُرِي } هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ، ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل ، وليس كذلك ولا يصح أن يقال : إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع ، وإنما هي من علم بمعنى عرف ، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى » بمنزلتها في هذه الحال ، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر ، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل{[4983]} فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره ، قبله ولا بعده ، وهذا هو قول مجاهد قال : تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة ، وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي ، وقيل : هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم ، قاله ابن عباس وغيره ، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه ، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره ، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية{[4984]} ، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة ، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنينن وبعده ، واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو ، و { ملكوت } بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت ، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية ، وقرأ «ملكوث » بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال «مَلْكوت » بإسكان اللام وهي لغة ، و { ملكوت } بمعنى الملك ، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه ، واللام في { ليكون } متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه ، والموقن : العالم بالشيء علماً لا يمكن أن يطرأ له فيه شك ، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً إن الإشارة ها هنا { بملكوت السماوات } هي إلى الكواكب والقمر والشمس ، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت ، وروي عن ابن عباس في تفسير { وليكون من الموقنين } قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا ، فرده لا يرى أعمالهم{[4985]} .
عطف على جملة : { قال إبراهيم لأبيه آزرَ أتتّخذ أصناماً آلهة } [ الأنعام : 74 ] . فالمعنى وإذ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراءة لا إراءة أوضح منها في جنسها والإشارة بقوله : { وكذلك } إلى الإراء المأخوذ من قوله { نُري إبراهيم } أي مثل ذلك الإراء العجيب نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض . وهذا على طريقة قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً } [ البقرة : 143 ] . وقد تقدّم بيانه في سورة البقرة ، فاسم الإشارة في مثل هذا الاستعمال يلازم الإفراد والتذكير لأنَّه جرى مجرى المثل .
وقوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } إشارة إلى حجّة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها .
والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة ، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف ، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدلّ بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق ، كما في قوله تعالى : { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } [ الأعراف : 185 ] ، فإبراهيم عليه السلام ابتُدىء في أوّل أمره بالإلهام إلى الحقّ كما ابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية الصادقة . ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي . وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا } [ فاطر : 9 ] .
والملكوت اتَّفق أئمَّة اللغة على أنَّه مصدر كالرَغَبُوت والرّحَمُوت والرّهَبُوت والجَبَرُوت . وقالوا : إنّ الواو والتاء فيه للمبالغة . وظاهره أنّ معناه المِلك بكسر الميم لأنّ مصدر مَلك المِلك بكسر الميم ولمَّا كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه المِلك القوي الشديد . ولذلك فسَّره الزمخشري بالربوبية والإلهية . وفي « اللسان » : مُلْك الله وملكوته سلطانُه ولفلان ملكوت العراق ، أي سلطانه ومُلكه . وهذا يقتضي أنَّه مرادف للمُلك بضمّ الميم وفي طبعة « اللسان » في بولاق رُقمت على ميم مُلكه ضمّة .
وفي « الإتقان » عن عكرمة وابن عبَّاس : أنّ الملكوت كلمة نَبَطِيَّة . فيظهر أنّ صيغة ( فعلوت ) في جميع الموارد التي وردت فيها أنَّها من الصيغ الدخيلة في اللغة العربية ، وأنَّها في النبطيّة دالَّة على المبالغة ، فنقلها العرب إلى لغتهم لِما فيها من خصوصية القوّة . ويستخلص من هذا أنّ الملكوت يطلق مصدراً للمبالغة في المِلك ، وأنّ المُلك ( بالضمّ ) لما كان مِلكاً ( بالكسر ) عظيماً يطلق عليه أيضاً المَلَكُوت . فأمَّا في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنَّه من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول ، وهو المملوك ، كالخَلق على المخلوق ، إمَّا من المِلك بكسر الميم أو من المُلك بضمِّها .
وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى ( في ) . والمعنى ما يشمله المُلك أو الملك ، والمُراد مُلك الله . والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفاً يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرّف فيما كشفنا له سوانا .
وعُطِف قوله : { وليَكون من الموقنين } على قوله : { وكذلك } لأنّ { وكذلك } أفاد كون المشبَّه به تعليماً فائقاً . ففهم منه أنّ المشبَّه به علّة لأمر مهمّ هو من جنس المشبَّه به . فالتقدير : وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليَعْلم علماً على وفق لذلك التفهيم ، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين . وقد تقدّم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى : { وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في هذه السورة [ 56 ] .
والموقن هو العالم علماً لا يقبل الشكّ ، وهو الإيقان . والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته . وقوله : وليكون من الموقنين } أبلغ من أن يقال : وليكون موقناً كما تقدّم عند قوله تعالى : { قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين } في هذه السورة [ 56 ] .