ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بالتهديد الشديد للكافرين ، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ويأمره بالصبر على أذاهم ، وعلى أحقادهم التى تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه ، فقال - تعالى - :
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ . . . } .
الفعل : { ذرنى } من الأفعال التى يأتى منها الأمر بالمضارع ، ولم يسمع لها ماض ، وهو بمعنى أترك . يقال : ذَرْهُ يفعل كذا ، أى : اتركه . ومنه قوله - تعالى - { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } والمراد بالحديث { بهذا الحديث . . . } ما أوحاه - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم ، ومن توجيهات حكيمة ، لكى يبلغها للناس .
والاستدراج : استنزال الشئ من درجة إلى أخرى ، والانتقال به من حالة إلى أخرى ، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا : التمهل فى إنزال العقوبة .
والإملاء : الإِمداد فى الزمن ، والإمهال والتأخير ، مأخوذ من الملاوة والملوة ، وهى الطائفة الطويلة من الزمن . والملوان : الليل : والنهار ، والمراد به هنا : إمدادهم بالكثر من النعم .
يقال : أملى فلان لبعيره ، إذا أرخى له فى الزمام ، ووسع له فى القيد ، ليتسع المرعى .
والكيد كالمكر ، وهو التدبير الذى يقصد به غير ظاهره ، بحيث ينخدع الممكور به ، فلا يفطن لما يراد به ، حتى يقع عليه ما يسوؤه .
وإضافة الكيد إليه - تعالى - يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه ، وكإمدادهم بالنعم . ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين : تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه .
والمعنى : إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين ، كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - فكِلْ أمرهم إلىَّ ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك ، ولا تشغل بالك بهم . فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم ، بأن أسوق لهم النعم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج ، ثم إنى أمد لهم فى أسباب الحياة الرغدة ، ليزدادوا إثما ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وهذا لون من ألوان كيدى الشديد القوى ، الذى لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء . .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .
وقال الحسن البصرى : كم من مستدرج بالإِحسان ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه .
قال الآلوسى : وقوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ . . . } استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا .
وقوله : { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه استدراج ، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم ، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم .
وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . .
وهو تهديد مزلزل . . والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : خلي بيني وبين من يكذب بهذا الحديث . وذرني لحربه فأنا به كفيل !
ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث ?
إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف ! هذه النملة المضعوفة . بل هذه الهباءة المنثورة . . بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم !
فيا محمد . خل بيني وبين هذا المخلوق . واسترح أنت ومن معك من المؤمنين . فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين . الحرب معي . وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا !
أي هول مزلزل للمكذبين ! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين . . المستضعفين . . ?
ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف !
( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .
وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير . . ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان . وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون . وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير . وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب . .
وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلا ولا رحمة . والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير . وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور !
إنه سبحانه يمهل ولا يهمل . ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته . ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان . فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه . . ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب !
ثم قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني : القرآن . وهذا تهديد شديد ، أي : دعني وإياه مني ومنه ، أنا أعلم به كيف أستدرجه ، وأمده في غيه وأنظر{[29209]} ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر ؛ ولهذا قال : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } أي : وهم لا يشعرون ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة ، وهو في نفس الأمر إهانة ، كما قال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] ، وقال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] . ولهذا قال هاهنا : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذّبُ بِهََذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليّ وهذا كقول القائل لاَخر غيره يتوعد رجلاً : دعني وإياه ، وخلّني وإياه ، بمعنى : أنه من وراء مساءته . و «مَن » في قوله : وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ في موضع نصب ، لأن معنى الكلام ما ذكرت ، وهو نظير قولهم : لو تُرِكْتَ ورأيَك ما أفلحت . والعرب تنصب «ورأيك » ، لأن معنى الكلام : لو وكلتك إلى رأيك لم تفلح .
وقوله : سَنَسْتَدْرِجِهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ يقول جلّ ثناؤه : سنكيدهم من حيث لا يعلمون ، وذلك بأن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم متعوا به بخير لهم عند الله ، فيتمادوا في طغيانهم ، ثم يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون .
وقوله تعالى : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وعيد ولم يكن ثم مانع ، ولكنه كما تقول : دعني مع فلان ، أي سأعاقبه ، { ومن } في موضع نصب عطفاً على الضمير في : { ذرني } أو نصباً على المفعول معه ، و { الحديث } المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب ، والاستدراج هو : الحمل من رتبة إلى رتبة ، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر ، وهو مأخوذ من الدرج ، قال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ، ويمنعون الشكر ، وقال غيره : كلما زادوا ذنباً زادوا نعمة ، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »{[11266]} وقال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه .
الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سبباً في ذكر ما بعده ، فبعد أن استُوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصْره عليهم .
وقوله : { فذرني ومن يكذب } ونحوه يفيد تمثيلاً لحال مفعول ( ذر ) في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانةٍ بصاحببِ المؤونةِ بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول ( ذَرْ ) لأنه أقدر من المعتدَى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه ، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعوللٍ معه ومنه قوله تعالى : { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] { ذَرني ومن خلقتُ وحيداً } [ المدثر : 11 ] وقال السهيلي في « الروض الأنف » في قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] فيه تهديد ووعيد ، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر .
والواو واو المعية وما بعدها مفعول معه ، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود : اتركني معهم .
و { الحديث } يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثاً لما فيه من الإِخبار عن الله تعالى ، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات ، وقد سمي بذلك في قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة الأعراف ( 185 ) وقوله تعالى : { أفمِن هذا الحديث تعجبون وتضحكون } الآية في [ سورة النجم : 5960 ] ، وقوله : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } في سورة الواقعة ( 81 ) .
واسم الإِشارة على هذا للإِشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن .
ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإِخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق الآية } [ القلم : 42 ] .
ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى : حسبك إيقاعاً بهم أن تكل أمرهم إليّ فأنَا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بهم وتوكل عليَّ .
ويتضمن هذا تعريضاً بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام .
وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول .
وجملة { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ، بيان لمضمون { ذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث } باعتبار أن الاستدراج والإِملاء يعقبهما الانتقام فكأنه قال : سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطىء الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره .
والاستدراج : استنزال الشيء من دَرَجة إلى أخرى في مثل السُّلم ، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج ، أي التنقل في الدَّرج ، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرَج يكون صعوداً ونزولاً ، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمُسيءٍ إلى إبَّان مقدرٍ عند حلوله عقابُه ومعنى { من حيث لا يعلمون } أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك ، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حلول المصائب بهم ، ف{ مِن } ابتدائية ، و{ حيث } للمكان المجازي ، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر ، ومفعول { لا يعلمون } ضمير محذوف عائد إلى { حيث .