المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

91- إن الشيطان لا يريد بتزيينه لكم شرب الخمر ولعب الميسر إلا أن يوجد بينكم الخلاف والشقاق والكراهية ، ليضعف أمركم بذهاب الألفة بينكم ، وتفتيت وحدتكم ، بسبب ما يزينه لكم من شرب المسكرات ولعب القمار ، لكي يصرفكم عن عبادة الله ، ويلهيكم عن أداء الصلاة ، لتسوء آخرتكم كما ساءت دنياكم . فبعد علمكم هذه المفاسد ابتعدوا عما نهيتكم عنه ، لتفوتوا على إبليس غرضه{[57]} .


[57]:ذكر الله سبحانه وتعالى في الخمر والميسر في هذه الآية أمورا أربعة أوجبت تحريمها: أولها: أنها خبث وشر في ذاته إذ لا يمكن أن توصف بالخير، لأن عنصر الضرر فيها واضح ففي الخمر فساد العقل، وفي الميسر فساد المال، وفيهما معا فساد القلب والشيطان هو الذي يحسنهما. ثانيها: أنها تنشر العداوة والبغضاء، فالميسر كثيرا ما ينتهي إلى نزاع، وإذا لم ينته إليه فإنه يثير الحقد والضغينة، والخمر أم الكبائر، وعلة تحريم الخمر تنحصر في الآتي: أن الله كرم الإنسان بالعقل بأن جعل له خلايا إرادية عليا في المخ تهيمن على الإرادة والذكاء والتمييز وكل الصفات العليا في الإنسان، والخمر خاصة والمخدرات عامة تعمل عملها في هذه المراكز فتبطلها، إما مؤقتا أو دائما حسب التأثر بالمشروب أو غيره وعند تنشيط وتعويق هذه المراكز عن العمل تطغى المراكز التي هي دونها فينفعل الإنسان بها، فإما أن يطغى أو يتعدى، وإما أن يفتر ويخمد، وهذا معناه فقد التوازن العقلي، وبالتالي تتأثر الأعمال، وكذلك تؤثر الخمر تأثيرا سيئا على الجهاز الهضمي والدوري وعلى الكلى والكبد وأخطر هذه جميعا التأثير على الكبد بتليفه. ثالثها: أنه إذا فقد الاتزان انصرف العبد عن ذكر الله الذي تحيا به القلوب. رابعها: وبالتالي فهي تصد عن الصلاة لأنها تنسى المؤمن الصلاة وكيفية أدائها على الوجه الأكمل، وتحريم القليل ولو لم يسكر سببه الخوف من التعود والتمادي الذي ينتهي بالإدمان. وعن الخمر قد أجمعت المذاهب الإسلامية على أنها كل مشروب أو غير مشروب يسكر في ذاته استنادا إلى حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الذي يقول فيه: [كل مسكر خمر وكل خمر حرام] وإلى ما أخرجه أبو داود في صحيحه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن كل مسكر ومفتر.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

قوله تعالى : { لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } ، أما العداوة في الخمر ، فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا ، وتشاجروا ، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل . وأما العداوة في الميسر ، قال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ، ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال ، مغتاظاً على حرفائه .

قوله تعالى : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } ، وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر و القمار ، ألهاه ذلك عن ذكر الله ، وشوش عليه صلاته ، كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف . وتقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، بحذف لا .

قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } . أي : انتهوا ، لفظه استفهام ، ومعناه أمر ، كقوله تعالى : { فهل أنتم شاكرون } [ الأنبياء :80 ] .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .

أي : إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان } بتزيينه المنكرات لكم { أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء } بأن يقطع ما بينكم من صلات ، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن ، بسبب تعاطيكم للخمر والميسر ، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده ، وأفقدته وعيه ، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه ، ويعتدي على صديقه وجليسه . وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس .

ولأن متعاطي الميسر كثيراً ما يخسر ماله على مائدة الميسر . والمال كما نعلم شقيق الروح ، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة ، وأصبح يضمر له السوء . وقد يؤدي به الحال إلى قتله حتى يشفي غيظه منه ، لأنه قد جعله فقيراً بائساً مجرداً من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس .

فقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية .

أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } .

أي : ويريد الشيطان أيضاً بسبب تعاطيكم للخمر والميسر - أن يصدكم أي يشغلكم ويمنعكم { عَن ذِكْرِ الله } أي : عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه { وَعَنِ الصلاة } التي هي الركن الثاني من أركان الإِسلام .

وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة ، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها .

ولأن متعاطي الميسر ببسب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث ، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات .

ورحم الله الآلوسي ، فقد قال عنده تفسيره لهذه الآية : ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس . والاستغراق في الملاذ الجسمانية ، تلهى عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة .

وأن الميسر إن كان اللاعب به غالباً ، انشرحت نفسه ، وصده بحب الغلب والقهر والكسب عما ذكر ، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك .

وقد شاهدنا كثيراً ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال .

وجمع - سبحانه - الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية ، لأن الخطاب للمؤمنين ، والمقصود نيهم عن الخمر والميسر ، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، أي أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما ، وتأكيد حرمتهما ، حتى لكأن متعاطي الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية ، وأهل الشرك بالله - تعالى - وكأنه - كما يقول الزمخشري - : لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر .

وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله ، تعظيما لشأنها ، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام ، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإِيمان ، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر .

والاستفهام في قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } لإِنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا ، أي : انتهوا سريعاً عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك . ولقد لبى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا الأمر فقالوا : " انتهينا يا رب ؛ انتهينا يا رب " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس :

( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . . ) . .

بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان ، وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد ( الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة ) . . ويالها إذن من مكيدة !

وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم ، وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ؛ إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه ، ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء ، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !

وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي ، والميسر يلهي ، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ؛ وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !

وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب ( الذين آمنوا ) وتحفزها ، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع :

فهل أنتم منتهون ؟

فيجيب لتوه : " انتهينا . انتهينا " . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ويحسن ذلك لكم إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح ، ليعادي بعضكم بعضا ، ويبغّضَ بعضكم إلى بعض ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان وجمعه بينكم بأخوة الإسلام . ويَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله يقول : ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم ، وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ، وعن الصلاة التي فرضها عليكم ربكم . فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ يقول : فهل أنتم منتهون عن شرب هذه ، والمياسرة بهذا ، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لأوقاتها ، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم .

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاية ، فقال بعضهم : نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب ، وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله تحريمها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال : فنزلت الاية التي في البقرة : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال : فدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الاية في النساء : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ . قال : وكان منادي النبيّ صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربنّ الصلاة السكران قال : فدُعي عمر ، فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال : فنزلت الاية التي في المائدة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فلما انتهى إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر : انتهينا انتهينا .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب بالعقل والمال ثم ذكر نحو حديث وكيع .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر بن الخطاب : اللهمّ بين لنا فذكر نحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الناس ، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ وَمنَافِعُ للناسِ وإثْمُهُماأكبرُ مِنْ نَفْعِهِما فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ، ونستغفر من ذلك . حتى أتى رجل صلاة المغرب ، فجعل يقرأ : قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . فجعل لا يجوّد ذلك ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة فيدعَون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون . فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى : إنّمَا الخمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقالوا : انتهينا يا رب .

وقال آخرون : نزلت هذه الاَية بسبب سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه كان لاَحَى رجلاً على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلَحْيِ جمل ، ففزر أنفه ، فنزلت فيهما . ذكر الرواية بذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، عن مصعب ابن سعد عن أبيه سعد ، أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا ، قال : فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم . قال : فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف . قال : فنزلت هذه الاية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ . . . إلى آخر الآية .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال سعد : شربت مع قوم من الأنصار ، فضربت رجلاً منهم أظنّ بفكّ جمل فكسرته ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ . . . إلى آخر الاية .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : شربت الخمر مع قوم من الأنصار ، فذكر نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث أن ابن شهاب أخبره أن سالم بن عبد الله حدثه : أن أوّل ما حرّمت الخمر ، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابا له شربوا ، فاقتتلوا ، فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ . . . الاية .

وقال آخرون : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن جبير ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته ، فيقول : فعل بي هذا أخي فلان ؛ وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ؛ والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا حتى وقعت في قلوبهم الضغائن ، فأنزل الله : إنّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ، فأنزل الله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية .

حدثنا محمد بن خلف ، قال : حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، عن أبي تميلة ، عن سلام مولى حفص بن أبي قيس ، عن أبي بريدة ، عن أبيه ، قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلاّ ، إذ قمت حتى آتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ . . . إلى آخر الايتين : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . قال : وبعض القوم شرْبته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا ، انتهينا ربّنا

وقال آخرون : إنما كانت العداوة والبغضاء كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الاية بسبب الميسر لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر ، فلذلك نهاهم الله عن الميسر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع قال بشر : وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره ، فكانت تورث بينهم عداوةً وبغضاء ، فنهى الله عن ذلك وقدّم فيه والله أعلم بالذي يُصْلح خلقه .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى قد سمى هذه الأشياء التي سماها في هذه الاية رجسا وأمر باجتنابها .

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاية ، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضي الله عنه في أمر الخمر ، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاريّ عند انتشائهما من الشراب ، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضه . وليس عندنا بأيّ ذلك كان خبر قاطع للعذر ، غير أنه أي ذلك كان ، فقد لزم حكم الاية جميع أهل التكليف ، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الاية ، فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فرض على جميع من بلغته الاية من التكليف اجتناب جميع ذلك ، كما قال تعالى : فاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91)

ثم أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر ، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل ، حتى ربما بقي المقمور حزيناً فقيراً فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة ، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء ، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً »{[4704]} ، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو ، و { البغضاء } تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية ، وكذلك أيضاً يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات ، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك ، وفي قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى انتهوا .


[4704]:- رواه مسلم عن أبي هريرة. (الجامع الصغير)