قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } ، الآية . نزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ، ابتلاهم الله بالصيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم كثيرة ، ا فهموا بأخذها فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله } ليختبرنكم الله ، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد ، وإنما بعض ، فقال : { بشيء } لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصةً .
قوله تعالى : { تناله أيديكم } ، يعني : الفرخ والبيض ، وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد .
قوله تعالى : { ورماحكم } ، يعني : الكبار من الصيد .
قوله تعالى : { ليعلم الله } ، ليرى الله ، لأنه قد علمه .
قوله تعالى : { من يخافه بالغيب } ، أي : يخاف الله ولم يره ، وذلك قوله تعالى : { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] أي : يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام .
قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } ، أي : صاد بعد تحريمه .
قوله تعالى : { فله عذاب أليم } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يوجع ظهره وبطنه جلداً ، ويسلب ثيابه .
وبعد أن حذر الله - تعالى - المؤمنين من تعاطي المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من الآيات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين - سبحانه - بشيء من التفصيل بعض الأحكام التي تتعلق بالصيد فقال - تعالى -
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال الآلوسي : هذه الآية - كما خرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان - نزلت في عمرة الحديبية ، حيث ابتلاهم الله - تعالى - بالصيد وهم محرمون ، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، وكانوا متمكنين من صيدها أخذاً بأيديهم وطعنا برماحهم فهموا بأخذها فنزلت .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ } أي : ليخبرنكم وليمتحننكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان ولفظ الصيد في قوله : { مِّنَ الصيد } مصدر بمعنى المصيد أي : ما يصطادونه .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ليختبرن الله - سبحانه - إيمانكم ومبلغ قوته بأن يرسل إليكم وأنتم محرمون شيئا من الصيد الذي تحبونه ، بحيث يكون في متناول أيديكم ورماحكم .
وقوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله } جواب قسم محذوف والتقدير : والله ليعاملنكم سبحانه معاملة المختبر ليتبين المطيع من العاصي .
وأكد سبحانه - هذا الخبر بلام القسم ونون التوكيد للإِشارة إلى أهمية هذا الاختبار حتى يسارعوا إلى طاعته - سبحانه - وامتثال أمره .
والتنوين في قوله { بشيء } للتقليل والتحقير . وإنما امتحنوا بهذا الشيء الصغير ، تنبيها إلى أن من لم يثبت ويعصم نفسه عن ارتكاب هذه الأشياء الصغيرة فإنه لن يثبت أمام التكاليف الكبيرة .
ويمكن أن يقال ، إن التنوين هنا للتعظيم باعتبار الجزاء الأليم المترتب على الاعتداء على الصيد في حال الإِحرام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى التقليل والتصغير في قوله : بشيء من الصيد ؟
قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيله من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه .
وقوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } هو موضع الاختبار { من } في قوله { مِّنَ الصيد } لبيان الجنس . أو التبعيض ، لأن المراد صيد البر دون البحر ، وصيد الإحرام دون صيد الإِحلال .
ومعنى { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } تستطيع أيدكم أن تأخذ هذا الصيد بسهولة ويسر إذا كان كبيراً أو بعيداً بعدا نسبيا منكم .
وخص الأيدي والرماح بالذكر ، لأن معظم التصرفات التي تتعلق بالصيد تكون بالأيدي ، ولأن معظم الآلات التي تستعمل تكون الرماح .
وقوله : { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } تعليل قصد به بيان الحكمة من وراء الابتلاء والاختبار .
والمراد بالعلم في قوله : { لِيَعْلَمَ الله . . . } إظهار ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته ، حتى يتميز الخبيث من الطيب .
والمعنى : اختبرناكم أيها المؤمنون بنوع من البلايا - وهو تحريم صيد البر صغاراً وكباراً - وأنتم محرمون أو في الحرم ، ليظهر ما علمه أزلا - سبحانه - من أهل طاعته ومعصيته ، وبذلك يتميز للناس الخبيث من الطيب ، ويعرف الشخص الذي يخاف الله ويراقبه - مع أنه لم ير الله - سبحانه - من الشخص الذي لا يخافه بالغيب .
قال الجمل : وقوله { بالغيب } حال من فاعل يخافه ، أي : يخاف الله حاله كونه غائبا عن الله ومعنى كون العبد غائبا عن الله ، أنه لم ير الله تعالى .
أو حال من المفعول : أي : يخاف الله حال كونه - تعالى - ملتبسا بالغيب عن العبد ، أي غير مرئى له .
وقوله : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لسوء عاقبة المخالف لأوامر الله والمتجاوز لحدوده .
واسم الإشارة ( ذلك ) يعود ما بينه - سبحانه - لعباده من أحكام .
والمعنى : لقد اختبرناكم - أيها المؤمنون - بما اختبرناكم به ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، فمن تعدى منكم حدود الله بعد هذا البيان والإِعلام ، فله عذاب شديد الآلام عظيم الإِهانة ، لأن التعدي بعد الإِنذار ، دليل على عدم المبالاة بأوامر الله ومن لم يبال بأوامر الله ساءت عاقبته .
وقبح مصيره . هذا ، ولقد نجحت الأمة الإِسلامية وخصوصا سلفها الصالح في هذا الاختبار فقد تجنب أبناءها وهم محرومون أول في الحرم مصيد البر مما أغراهم قربه منهم ، وحبهم له على صيده والانتفاع به .
بينما أخفق بنو إسرائيل فيما يشبه هذا الاختبار ؛ فقد نهاهم الله - تعالى - عن الصيد في يوم السبت ، فكانت الأسماك تظهر لهم في هذا اليوم امتحانا من الله لهم ، فما كان منهم إلا أن تحايلوا على صيدها ، بأن حبسوها في يوم السبت ليصيدوها في غيره . . فاستحقوا من الله اللعنة والمسخ واستحقت الأمة الإِسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس .
ثم يمضي السياق في مجال التحريم والتحليل ، يتحدث عن الصيد في حالة الإحرام ، وكفارة قتله ، وعن حكمة الله في تحريم البيت والأشهر الحرم والهدى والقلائد ، التي نهى عن المساس بها في مطالع السورة . . ثم يختم هذه الفقرة بوضع ميزان القيم للنفس المسلمة وللمجتمع المسلم . . الميزان الذي يرجح فيه الطيب وإن قل ، على الكثير والخبيث :
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ؛ ليعلم الله من يخافه بالغيب ؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ؛ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم ؛ هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ؛ والله عزيز ذو انتقام . أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون . جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياما للناس ، والشهر الحرام والهدي والقلائد . ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم . ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون . قل : لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون :
لقد قال تعالى للذين آمنوا في أول هذه السوره :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا . . ) .
وكان هذا النهي عن إحلال الصيد وهم حرم ؛ وعن إحلال شعائر الله ، أو الشهر الحرام أو الهدي والقلائد ، أو قاصدى البيت الحرام ، لا يرتب عقوبة في الدنيا على المخالف ، إنما يلحقه الإثم . . فالآن يبين العقوبة وهي الكفارة ( ليذوق وبال أمره ) ويعلن العفو عما سلف من إحلال هذه المحارم ؛ ويهدد بانتقام الله ممن يعود بعد هذا البيان .
وتبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف ( يا أيها الذين آمنوا . . ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء ؛ في أمر الصيد الذي نهوا عنه وهم محرمون : ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ، ليعلم الله من يخافه بالغيب ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . .
إنه صيد سهل ، يسوقه الله إليهم . صيد تناله أيديهم من قريب ، وتناله رماحهم بلا مشقة . ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب ! . . إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء . . إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له ، حين ألحوا على نبيهم موسى - عليه السلام - أن يجعل الله لهم يوما للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش . فجعل لهم السبت . ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصدا الشاطى ء متعرضا لأنظارهم في يوم السبت . فإذا لم يكن السبت اختفى ، شأن السمك في الماء . فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله ؛ وراحوا - في جبلة اليهود المعروفة - يحتالون على الله فيحوطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه ؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة ! وذلك الذي وجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون )
هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة ، فنجحت حيث أخفقت يهود . . وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .
ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل . ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة . ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها . إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلا كاملا في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة . . ذلك يوم أن كانت مسلمة . يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر . وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة ؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله ، وتقوم عليه بأمانة الله .
ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح . وكانت عناية الله - سبحانه - بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه .
ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء :
( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) . .
إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم . القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وبناء السلوك ، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم . .
إن الناس لا يرون الله ؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون . . إنه تعالى بالنسبة لهم غيب ، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافة . إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة - حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته - والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة ؛ والشعور بهذا الغيب شعورا يوازي - بل يرجح - الشهادة ؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة : بأن لا إله إلا الله وهو لم ير الله . . إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري ، وانطلاق طاقاته الفطرية ، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل ؛ وابتعاده - بمقدار هذا الارتقاء - عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب - بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان - بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس ، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس ، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه ، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس " المادي " !
ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء ؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها . .
والله سبحانه يعلم علما لدنيا من يخافه بالغيب . ولكنه - سبحانه - لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علما لدنيا . إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله - سبحانه - علم وقوع . .
( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) . .
فقد أخبر بالابتلاء ، وعرف حكمة تعرضه له ، وحذر من الوقوع فيه ؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه . . فإذا هو اعتدى - بعد ذلك - كان العذاب الأليم جزاء حقا وعدلا ؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلا ،
القول في تأويل قوله تعالى : { يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ يقول : ليختبرنكم الله بشيء من الصيد ، يعني : ببعض الصيد . وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء ، لأنه لم يبلهم بصيد البحر وإنما ابتلاهم بصيد البرّ ، فالابتلاء ببعض لم يمتنع . وقوله : تَنالُه أيْدِيكُمْ يعني : إما باليد ، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح ، وذلك كالحُمُر والبقر والظباء ، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم .
وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : أيديكم صغار الصيد ، أخذ الفراخ والبيض . و «الرماح » ، قال : كبار الصيد .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : النبل ، ورماحكم تنال كبير الصيد ، وأيديكم تنال صغير الصيد ، أخذ الفراخ والبيض .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد في قوله : لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : ما لا يستطيع أن يفرّ من الصيد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله تعالى به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم ، فنهاهم الله أن يقربوه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن حميد الأعرج ، وليث عن مجاهد في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال : الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفرّ .
القول في تأويل قوله تعالى : " لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمُ " .
يعني تعالى ذكره : ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال إحرامكم ، كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه ، من الذي يخاف الله ، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بالغيب ، بمعنى : في الدنيا بحيث لا يراه . وقد بينا أن الغيب إنما هو مصدر قول القائل : غاب عني هذا الأمر فهو يغيب غيبا وغيبة ، وأن ما لم يعاين فإن العرب تسميه غيبا .
فتأويل الكلام إذن : ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرّمها عليه من الصيد وغيره ، بحيث لا يراه ولا يعاينه .
وأما قوله : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فإنه يعني : فمن تجاوز حدّ الله الذي حدّه له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام ، فاستحلّ ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله فَلَهُ عَذَابٌ من الله ألِيمٌ يعني : مؤلم موجع .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعاً عند الجميع منهم مستعملا جداً ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في السبت{[6]} .
و{ من } تحتمل أن تكون للتبعيض ، فالمعنى من صيد البر دون البحر ، ذهب إليه الطبري وغيره ، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس ، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الرزق ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }{[7]} وقوله { بشيء } يقتضي تبعيضاً ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم }{[8]} أعطت تبعيضاً ما ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله » بالياء منقوطة من تحت ، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم{[9]} المتصرف في الاصطياد ، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر لأنها ُعْظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد{[10]} للآخذ لا للمثير بهذه الآية ، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً ، وقوله تعالى { ليعلم } معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل . وقرأ الزهري «ليُعلِم الله » بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده ، و { بالغيب } قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، وقد خفي له لو صاد ، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله { ليبلونكم } وأشار إليه قوله { ذلك } والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة .