ثم بين - سبحانه - أن مصير جميع الخلائق إليه ، وأنه محيط بأحوالهم فقال . { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } . . .
أى : ربكم - أيها الناس - أعلم بكم من أنفسكم ، وهو - سبحانه - إن يشأ بفضله يرحمكم ، بأن يوفقكم لطاعته وتقواه ، وإن يشأ بعدله يعذبكم ، بسبب معاصيكم وفسوقكم عن أمره ، لا يسأل - عز وجل - عما يفعل ، { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } وقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } بيان لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم .
أى : وما أرسلناك - أيها الرسول الكريم - إلى الناس ، لتكون حفيظا ورقيبا . وموكولا إليك أمرهم فى إجبارهم وإكراههم على الدخول فى الإِسلام ، وإنما أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا : رَبّكُمْ أيها القوم أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشأْ يَرْحَمُكُمْ فيتوب عليكم برحمته ، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الاَخر وَإنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على شرككم ، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج قوله : رَبّكُمْ أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ قال : فتؤمنوا أوْ إنْ يَشأْ يُعَذّبْكُمْ فتموتوا على الشرك كما أنتم .
وقوله : وَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا ، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا ، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم ، فإن شئنا رحمناهم ، وإن شئنا عذّبناهم .
هذا الكلام متصل بقوله : { نحن أعلم بما يستمعون به } إلى قوله : { فلا يستطيعون سبيلا } [ الإسراء : 47 ، 48 ] . فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على العناد والإصرار على الكفر . وذلك يسوء النبي ويحزنه أن لا يهتدوا ، فوُجه هذا الكلام إليه تسلية له . ويدل لذلك تعقيبه بقوله : { وما أرسلناك عليهم وكيلا } .
ومعنى { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة ، أو مشيئة تركهم وشأنَهم . وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها ، وما قيل غيره أراه لا يلتئم .
وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيراً بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم ، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله : { أعلم بكم } وقعٌ بديع ، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء .
وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة { إن يشأ يرحمكم } الآية ، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب .
ومعنى { أعلم بكم } أعلم بحالكم ، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم .
فجملة { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } مبينة للمقصود من جملة { ربكم أعلم بكم } .
والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال ، بقرينة مقارنته لقوله : { ربكم أعلم بكم } الذي هو كالمقدمة . وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين : صريحهما وكنايتهما ، ولإظهار أنه لا يسأل عما يَفعل ، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته . فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذابَ بأسبابه ، بحكمته وعدله ، عُلم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما ، وفعل الشرط محذوف . والتقدير : إن يشأ رحمتَكم يرحمْكم أو إن يشأ تعذيبَكم يعذبْكم ، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال .
وجيء بالعطف بحرف ( أو ) الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف ( أو ) للتقسيم .
وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له ، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار .
وإعادةُ شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين .
وجملة { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى ، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة . إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم ، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعياً .
والوكيل على الشيء : هو المسؤول به . والمعنى : أرسلناك نذيراً وداعياً لهم وما أرسلناك عليهم وكيلاً ، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعياً ونذيراً معلوم بالمُشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلاً وملجئاً آل إلى معنى : ما أنت إلا نذير .
وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين ، كما عادت إليهم ضمائر { على قلوبهم } [ الإسراء : 46 ] وما بعده من الضمائر اللائقة بهم .
وعليهم } متعلق ب { وكيلا } . وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.