قوله عز وجل :{ وما أرسلناك إلا كافة للناس } يعني : للناس أحمرهم وأسودهم ، { بشيراً ونذيراً } أي : مبشراً ونذيراً ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وروينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " . وقيل : كافة أي : كافاً يكفهم عما هم عليه من الكفر ، والهاء للمبالغة .
ثم بين - سبحانه - وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على شبهات المشركين فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً . . . وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } .
قال الآلوسى : المتبادر أن { كَآفَّةً } حال من الناس ، قدم " إلا " عليه للاهتمام ؛ وأصله من الكف بمعنى المنع ، وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج ، واشتهر فى ذلك حتى قطع فيه النظر عن معنى المنع بالكلية . فمعنى جاء الناس كافة : جاءوا جميعا :
قال ابن عباس : أرسل الله - تعالى - محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم ، فأكرمهم على الله - تعالى - أطوعهم له . .
أى : وما أرسلناك - أيها الرسول الكريم - إلا إلى الناس جميعا ، لتبشر المؤمن منهم بحسن الثواب ، وتنذر من أعرض عن الحق الذى جئت به بسوء العقاب . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } هذه الحقيقة ، وهى عموم رسالتك وكونك بشيرا ونذيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة ، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين ، العرب منهم والعجم ، والأحمر والأسود ، بشيرا من أطاعك ، ونذيرا من كذّبك ، وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً للنّاس قال : أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم ، فأكرمُهُم على الله أطوعهم له .
ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «أنا سابِقُ العَرَبِ ، وَصُهَيْبُ سابِقُ الرّومِ ، وَبِلالُ سابِقُ الحَبَشَةِ ، وَسَلْمانُ سابِقُ فارِسَ » .
هذا إعلام من الله تعالى بأنه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالم ، و «الكافة » الجمع الأكمل من الناس ، و { كافة } نصب على الحال وقدمها للاهتمام ، وهذه إحدى الخصال التي خص بها محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء التي حصرها في قوله «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود والأحمر » ، وفي هذه الخصال زيادة في كتاب مسلم{[9664]} .
وقوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يريد بها العموم في الكفرة ، والمؤمنون هم الأقل .
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه ، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض .
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود .
فإن { كافَّة } من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالاً من « الناس » مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف ، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } في سورة البقرة ( 208 ) ، وعند قوله : { وقاتلوا المشركين كافة } في سورة براءة ( 36 ) . وذكرنا أن التحقيق : أن كافة } يوصف به العاقلُ وغيرُه وأنه تعتوره وجوهُ الإِعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافاً لابن هشام في « مغني اللبيب » ، وأن ما شدد به التّنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز . والتقدير في هذه الآية : وما أرسلناك للناس إلاّ كافّة . وقدّم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم .
وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل { كافة } نعتاً لمحذوف ، أي إرساله كافة ، أي عامة . وقد ردّ عليه ابن مالك في « التسهيل » وقال : قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كَيسان . وقلت : وجوّزه ابن عطية والرضيّ . وجعل الزجاج { كافة } هنا حالاً من الكاف في { أرسلناك } وفسره بمعنى جامع للناس في الإِنذار والإِبلاغ ، وتبعه أبو البقاء . قال الزمخشري : وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلاّمة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضاً .
وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج { كافة } عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معيّن إلى معنى الجمع الكلّي المستفاد من وراء ذلك . وهذا كمن يعمد إلى ( كل ) فيقول : إنك كلٌ للناس ، أي جامع للناس ؛ أو يعمد إلى ( على ) الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول : إياك وعلى ، يريد إياك والاستعلاءَ .
والبشير النذير تقدم في قوله تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) .
وأفاد تركيب وما أرسلناك إلا كافة للناس } قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله : { أرسلناك } وهو قصر إضافي ، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإِيمان والإِرشاد كما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول للنبيء صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلساً هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أُبي : « لا أحسنَ مما تقول أيها المرء ولكن اقعُد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه » ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الردَّ على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها .
وموقع الاستدراك بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغرّ المتأمل لأنهم لا يعلمون .
ومفعول { يعلمون } محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي لا يعلمون ما بشرتَ به المؤمنين وما أنذرتَ به الكافرين ، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين .
ويجوز أن يكون فعل { يعلمون } منزَّل منزلة اللام مقصوداً منه نفي صفة العلم عنهم على حدّ قوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة .