السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (28)

ولما بين تعالى مسألة التوحيد شرع في الرسالة بقوله سبحانه وتعالى : { وما أرسلناك } أي : بعظمتنا { إلا كافة للناس } أي : إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا فكأنه حال من الناس قدم للاهتمام ، وقول البيضاوي : ولا يجوز جعلها حالاً من الناس أي : لأن تقديم حال المجرور عليه كتقديم المجرور على الجار رده أبو حيان بقوله : هذا ما ذهب إليه الجمهور وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه وهو الصحيح انتهى . وهذا هو الذي ينبغي اعتماده ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ومن أمثلة أبي علي : زيد خير ما يكون خير منك والتقدير : زيد خير منك خير ما يكون وأنشد :

إذا المرء أعيته المطالب ناشئاً *** فمطلبها كهلاً عليه شديد

أي : فمطلبها عليه كهلاً وأنشد أيضاً :

تسليت طراً عنكم بعد بينكم *** بذكراكم حتى كأنكم عندي

أي : عنكم طراً ، وقيل : أنه حال من كاف أرسلناك والمعنى : إلا جامعاً للناس في الإبلاغ والكافة بمعنى الجامع ، والهاء فيه للمبالغة كهي في علامة ورواية قاله الزجاج .

وقيل : إن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرسالة كافة قال الزمخشري : إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفة لموصوف محذوف قال البقاعي : وأما الجن فحالهم مشهور أي : أنه أرسل إليهم ، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور انتهى .

وهذا هو اللائق بعموم رسالته وإن خالف في ذلك الجلال المحلي في «شرحه على جمع الجوامع » ، وفي عموم رسالته صلى الله عليه وسلم فضيلة على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلئن كان داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير وإلانة الحديد وسليمان عليه السلام بما ذكر له ، فقد فضل محمد صلى الله عليه وسلم نبينا بإرساله إلى الناس كافة ، والحصا سبح في كفه ، والجبال أمرت بالسير معه ذهباً وفضة ، والحمرة شكت إليه أخذ فراخها أو بيضها ، والضب شهد له بالرسالة والجمل شكا إليه وسجد له ، والأشجار أطاعته والأحجار سلمت عليه وائتمرت بأمره وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ، وإنما ذكرت ذلك تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأنا أسأل الله تعالى أن يشفع في وفي والدي وجميع أحبابي وبقية المسلمين أجمعين .

ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار وكان في ذكرها رد لقولهم في الكذب والجنون قال تعالى { بشيراً } أي : مبشراً للمؤمنين بالجنة { ونذيراً } أي : منذراً للكافرين بالعذاب { ولكن أكثر الناس } أي : كفار مكة { لا يعلمون } فيحملهم جهلهم على مخالفتك .