الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (28)

قوله : { كَآفَّةً } : فيه أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من كاف " أَرْسَلْناك " والمعنى : إلاَّ جامعاً للناس في الإِبلاغ .

والكافَّةُ بمعنى الجامع ، والهاءُ فيه للمبالغة كهي في : عَلاَّمة وراوِية . قاله الزجاج . وهذا بناءً منه على أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ . وقال الشيخ : " أمَّا قولُ الزجَّاج : إن كافَّة بمعنى جامعاً ، والهاءُ فيه للمبالغة ؛ فإنَّ اللغَةَ لا تُساعِدُه على ذلك ؛ لأنَّ كَفَّ ليس معناه محفوظاً بمعنى جَمَعَ " يعني : أن المحفوظَ في معناه مَنَع . يقال : كَفَّ يَكُفُّ أي : مَنَع . والمعنى : إلاَّ مانعاً لهم من الكفرِ ، وأن يَشُذُّوا مِنْ تَبْليغِك ، ومنه الكفُّ لأنها تمنع خروج ما فيه .

الثاني : أنَّ " كافَّة " مصدرٌ جاء على الفاعِلة كالعافِية والعاقِبَة . وعلى هذا فوقوعُها حالاً : إمَّا على المبالغةِ ، وإمَّا على حذف مضافٍ أي : ذا كافَّةٍ للناس .

الثالث : أنَّ " كافَّة " صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : إلاَّ إرْسالةً كافَّةً . قال الزمخشري : " إلاَّ إرْسالةً عامةً لهم محيطةً بهم ؛ لأنها إذا شَمِلَتْهُم فقد كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ منها أحدٌ منهم " . قال الشيخ : " أمَّا كافَّة بمعنى عامَّة ، فالمنقولُ عن النحويين أنها لا تكونُ إلاَّ حالاً ، ولم يُتَصَرَّفْ فيها بغير ذلك ، فَجَعْلُها صفةً لمصدرٍ محذوفٍ خروجٌ عَمَّا نقلوا ، ولا يُحْفَظُ أيضاً استعمالُها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ " . /

الرابع : أنَّ قوله : " كافَّةً " حالٌ من " للناس " أي : للناس كافَّة . إلاَّ أن هذا قد رَدَّه الزمخشريُّ فقال : " ومَن جَعَلَه حالاً من المجرور متقدِّماً عليه فقد أخطأ ؛ لأنَّ تَقَدُّمَ حالِ المجرورِعليه في الإِحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجارِّ . وكم تَرَى مِمَّنْ يَرْتكبُ مثلَ هذا الخطأ ، ثم لا يَقْنَعُ به حتى يَضُمَّ إليه أن يَجْعَلَ اللامَ بمعنى إلى ، لأنه لا يَسْتوي له الخطأُ الأولُ إلاَّ بالخطأ الثاني ، فلا بُدَّ له أَنْ يرتكبَ الخطأَيْن معاً " . قال الشيخ : " أمَّا قوله كذا فهو مختلَفٌ فيه : ذهب الجمهورُ إلى أنه لا يجوزُ ، وذهب أبو عليّ وابن كَيْسانَ وابن بَرْهانَ وابن ملكون إلى جوازه " . قال : " وهو الصحيحُ " . قال : " ومِنْ أمثلةِ أبي عليّ : " زيدٌ خيرَ ما يكونُ خيرٌ منك " . التقدير : زيدٌ خيرٌ منك خيرَ ما يكونُ ، فجعل " خيرَ ما يكون " حالاً من الكاف في " مِنْكَ " وقَدَّمها عليها وأنشد :

3742 إذا المَرْءُ أَعْيَتْه المروءةُ ناشِئاً فمطلبُها كهْلاً عليه شديدُ ***

أي : فمطلَبُها عليه كَهْلاً . وأنشد أيضاً :

3743 تَسَلَّيْتُ طُرَّاً عنكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ *** بذِكْراكمُ حتى كأنَّكُمُ عندي

أي : عنكم طُرَّاً . وقد جاء تقديمُ الحالِ على صاحبِها المجرور وعلى ما يتعلق به قال :

3744 مَشْغُوفَةً بكِ قد شُغِفْتُ وإنَّما *** حَتَمَ الفراقُ فما إليك سبيلُ

أي : قد شُغِفَتْ بك مَشْغوفةً . وقال آخر :

3745 غافِلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْ *** ءِ فيُدْعَى ولات حينَ إباءُ

أي : تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْءِ غافِلاً " . قال : " وإذا جازَ تقديمُها على صاحبها وعلى العاملِ فيه ، فتقديمُها على صاحبِها وحدَه أجوزُ " . قال : " ومِمَّنْ حمله على الحال ابنُ عطيةَ فإنه قال : " قُدِّمَتْ للاهتمام " والمنقولُ عن ابن عباس قولُه : إلى العرب والعجم وسائر الأمم ، وتقديره إلى الناس كافة . قال : " وقولُ الزمخشريِّ : لا يَسْتوي له الخطأ الأول إلخ فشَنيعٌ ؛ لأنَّ القائلَ بذلك لا يحتاجُ إلى جَعْلِ اللامِ بمعنى إلى لأنَّ أَرْسَلَ يتعدَّى باللام قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } [ النساء : 79 ] و " أرسلَ " ممَّا يتعدَّى باللامِ ، وب " إلى " أيضاً . وقد جاءتِ اللامُ بمعنى " إلى " و " إلى " بمعناها " .

قلت : أمَّا { أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ } فلا دَلالةَ فيه ؛ لاحتمالِ أَنْ تكونَ اللامُ لامَ العلةِ المجازيَّةِ . وأمَّا كونُها بمعنى " إلى " والعكسُ فالبصريُّون لا يَتَجوَّزُون في الحروف . و " بشيراً ونذيراً " حالان أيضاً .