ثم بين - سبحانه - موقف أهل الكتاب من دعوة عيسى - عليه السلام - فقال { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } .
والأحزاب : جمع حزب ، والمراد بهم الفرق التى تحزبت وتجمعت على الباطل من بعد عيسى .
وضمير الجمع فى قوله { مِن بَيْنِهِمْ } يعود إلى من بعث إليهم عيسى - عليه السلام - من اليهود والنصارى .
وقيل : يعود إلى النصارى خاصة ، لأنهم هم الذين اختلفوا فى شأنه ، فمنهم من قال : هو الله ومنهم من قال : هو ابن الله . ومنهم من قال : ثالث ثلاثة .
قال الآلوسى : قوله : { فاختلف الأحزاب } أى : الفرق المتحزبة { مِن بَيْنِهِمْ } أى : من بين من بعث إليهم ، وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته - عليه السلام - .
وقيل : المراد النصارى ، وهم أمة إجابته ، وقد اختلفوا فرقا : ملكانية ، ونسطورية ، ويعقوبية .
وقوله - تعالى - : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } بيان للعقاب الشديد الذى أعده الله - تعالى - لهم ، بسبب اختلافهم وبغيهم ، ونسبتهم إلى عيسى ما هو برئ منه .
أى : فهلاك وعذاب شديد للذين ظلموا أنفسهم بالكفر ، وبافترائهم على عيسى - عليه السلام - ، وما أشد حسرتهم فى هذا اليوم العصيب .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب ، الذين ذكرهم الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بذلك : الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى ، واختلفت فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهمْ قال : هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى . وقال آخرون : بل هم اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال : اليهود والنصارى .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : فاختلف الفِرَق المختلفون في عيسى بن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته ، وهم اليهود والنصارى ، ومن اختلف فيه من النصارى ، لأن جميعهم كانوا أحزابا مبتسلين ، مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه ، وقوله لهم : إنّ الله هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبَدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ .
وقوله : فَوَيْلٌ لِلّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم ألِيمٍ يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله ، الذين قالوا في عيسى بن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الاَية مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ يقول : من عذاب يوم مؤلم ، ووصف اليوم بالإيلام ، إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه ، وذلك يوم القيامة . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ قال : من عذاب يوم القيامة .
و : { الأحزاب } المذكورون : قال جمهور المفسرين أراد : اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا ، فمنهم من آمن به ، وهو قليل ، وكفر الغير ، وهذا إذا كان معهم حاضراً . وقال قتادة : { الأحزاب } هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام . وقال ابن حبيب وغيره : { الأحزاب } النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام ، فقالت فرقة : هو الله ، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 17 ] . وقالت فرقة : هو ابن الله ، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقالت فرقة : هو ثالث ثلاثة ، وهم الملكانية قال الله تعالى فيهم : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] .
وقوله تعالى : { من بينهم } بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم ، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم .
هذا التفريع هو المقصود من سوْق القصة مساق التنظير بين أحوال الرسل ، أي عَقِب دعوتَه اختلافُ الأحزاب من بين الأمة الذين بعث إليهم والذين تقلدوا ملته طلباً للاهتداء .
وهذا التفريع دليل على جواب ( لمّا ) المحذوف .
وضمير { بينهم } مراد به الذين جاءهم عيسى لأنهم معلومون من سياق القصة من قوله : { جاء عيسى } [ الزخرف : 63 ] فإن المجيء يقتضي مجيئاً إليه وهم اليهود .
و { من } يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول { بينهم } أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة ، أي فمنهم من صدق عيسى وهم : يحيى بن زكرياء ومريمُ أم عيسى والحواريون الاثنا عشر وبعض نساء مثل مريم المجدلية ونفر قليل ، وكفر به جمهور اليهود وأحبارهم ، وكان ما كان من تَألب اليهود عليه حتى رفعه الله . ثم انتشر الحواريون يدعون إلى شريعة عيسى فاتبعهم أقوام في بلاد رُومية وبلاد اليونان ولم يلبثوا أن اختلفوا من بينهم في أصول الديانة فتفرقوا ثلاث فرق : نسطورية ، ويعاقبة ، ومَلْكَانِيَّة . فقالت النسطورية : عيسى ابْن الله ، وقالت اليعاقبة : عيسى هو الله ، أي بطريق الحلول ، وقالت المَلْكَانية وهم الكاثوليك : عيسى ثالثُ ثلاثة مجموعها هو الإله ، وتلك هي : الأب الله ، والابنُ عيسى ، وروحُ القدس جبريل فالإله عندهم أقانيم ثلاثة .
وقد شملت الآية كلا الاختلافين فتكون الفاء مستعملة في حقيقة التعقيب ومجازِه بأن يكون شمولها للاختلاف الأخير مجازاً علاقته المشابهة لتشبيه مفاجأة طروّ الاختلاف بين أتباعه مع وجود الشريعة المانعةِ من مثله كأنه حدث عقب بعثة عيسى وإن كان بينه وبينها زمان طويل دبَّت فيه بدعتهم ، واستعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه شائع لأن المدار على أن تكون قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وحده على التحقيق . وهذا الاختلاف أُجمِل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقّى به اليهود دعوة عيسى ، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوّته من الله وإلهيته .
ويجوز أن تكون { مِن } في قوله : { من بينهم } ابتدائية متعلقة ب ( اختلف ) أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يُدخله عليهم غيرُهم ، أي كان دينهم سالماً فنشأ فيهم الاختلاف .
وعلى هذا الوجه يختص الخلاف بأتباع عيسى عليه السلام من النصارى إذ اختلفوا فرقاً وابتدعوا قضية بنوّة عيسى من الله فتكون الفاء خالصة للتعقيب المجازي .
وفرع على ذِكر الاختلاف تهديدُ بوعيد للذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة تفريعَ التذييل على المذيَّل ، فالذين ظلموا يشمل جميع الذين أشركوا مع الله غيره في الإلهية { إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وهذا إطلاق الظلم غالباً في القرآن ، فعلم أن الاختلاف بين الأحزاب أفضى بهم أن صار أكثرهم مشركين بقرينة ما هو معروف في الاستعمال من لزوم مناسبة التذييل للمذيَّل ، بأن يكون التذييل يعمّ المذيَّل وغيرَه فيشمل عمومُ هذا التذييل مشركي العرب المقصودين من هذه الأمثال والعِبر ، ألاَ ترى أنه وقع في سورة مريم ( 37 ) قولُه { فاختَلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوممٍ عظيمٍ } فجُعلت الصلة فعلَ كفروا لأن المقصود من آية سورة مريم الذين كفروا من النصارى ولذلك أردف بقوله : { لكن الظالمون اليوم في ضلاللٍ مبينٍ } [ مريم : 38 ] لمَّا أريد التخلص إلى إنذار المشركين بعد إنذار النصارى .