40- لا الشمس يتأتى لها أن تخرج على نواميسها فتلحق القمر وتدخل في مداره ، ولا الليل يتأتى له أن يغلب النهار ويحول دون مجيئه ، بل هما متعاقبان . وكل من الشمس والقمر وغيرهما يسبح في فلك لا يخرج عنه{[192]} .
{ لا الشمس ينبغي لها } يصح لها ويتسهل . { أن تدرك القمر } في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان ، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله ، أو سلطانه فتطمس نوره ، وإيلاء حرف النفي { الشمس } للدلالة على إنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها . { ولا الليل سابق النهار } يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه ، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران ، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكسا للأول وتبديل الإدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره . { وكل } وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه ، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات ، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما ، { في فلك يسبحون } يسيرون فيه بانبساط .
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلِّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها ، والقمر وسيره ، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون ، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلَّمة بعلامات نجومية تسمى بُروجاً بالنسبة لسير الشمس ، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر ، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل ، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج ، زادهم الله عبرة وتعليماً بأن للشمس سيراً لا يلاقي سير القمر ، وللقمر سيراً لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين ، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر ، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد .
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال ، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقارباً لحجم القمر . فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما .
فمعنى : { لا الشَّمْسُ يَنْبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر } نفي انبغاء ذلك ، أي نفي تأتِّيه ، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب ، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طَلبه ، يقال : بغاه فانبغَى له ، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوباً ، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور . يقال : لا ينبغي لك كذا ، ففرقٌ ما بين قولك : ينبغي أن لا تفعل كذا ، وبين قولك : لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، قال تعالى : { قالوا سبحانك ما كان ينبغي أن نتخذ من دونك من أولياء } [ الفرقان : 18 ] وتقدم قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً } في سورة مريم ( 92 ) ، ومنه قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } [ يس : 69 ] في هذه السورة .
والإِدراك : اللحاق والوصول إلى البُغية فقوله : { أن تُدرك } فاعل { يَنْبَغِي } فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمسسِ القمرَ . والمعنى : نفي أن تصطَدم الشمس بالقمر ، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب . وصوغ هذا بصيغة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإِفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل : لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر .
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقرراً في ذهن السامع أقوى مما لو قيل : الشمسُ لا ينبغي لها أن تدرك القمر ، فكان في قوله : { لا الشَّمْسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر } خُصوصيتان .
ولمَّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر ، وكان القمر مقارناً لليل ، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار .
ومعنى : { ولاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أن الليل ليس بمفلتتٍ للنهار ، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة ، كقول مُرة بن عَدَّاء الفقعسي :
كأنَّكَ لم تَسبَقْ من الدهر مَرَّةً *** إذا أنتَ أدركت الذي كنتَ تطلب
{ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } في سورة العنكبوت } ( 4 ) ، والمعنى : أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخّر لا قبل لليل أن يتخلف عنه .
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأوَّلية بالسير لأن ذلك لا يُتصور في تداول الليل والنهار ، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداءَ التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية ، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين . والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخرِ فاستقرّ في الأفق لتعطلت منافع جمّة من حياة الناس والحيوان .
وفي الكلام اكتفاء ، أي لأن التقدير : ولا القمرُ يدرك الشمسَ ، ولا النهارُ سابق الليل .
وقوله : { وكُلٌّ في فَلَككٍ يَسْبَحُونَ } عطف على جملة { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } . والواو عاطفة ترجيحاً لِجانب الإِخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل ، وإلا فحقّ التذييل الفصل . وما أضيف إليه { كلّ } محذوف ، وتنوين { كل } تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوففِ ، فالتقدير : وكلّ الكواكب .
وزيدت قرينة السياق تأكيداً بضمير الجمع في قوله : { يَسْبَحُونَ } مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء ، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل .
والفَلَك : الدائرة المفروضة في الخلاء الجوّي لسير أحد الكواكب سيراً مطّرداً لا يحيد عنه ، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها وبعض الأمم يتوهمون الشمس في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر .
وسمّى العرب تلك الطرائق أفلاكاً واحدها فَلَك اشتقوا له اسماً من اسم فَلْكَة المِغْزَل ، وهي عُود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلفُّ المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفّيها فتلتف عليها خيوط الغزل ، فتوهموا الفلك جسماً كُرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفَلَك . وسمّوا ما بين مبدأ المُدّتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك . ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله : { يَسْبَحُونَ } ، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء ، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد .
وجيء بضمير { يَسْبَحُونَ } ضمير جمع مع أن المتقدم ذِكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن .
وجملة { كل في فلك } فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} فتضيئ مع ضوء القمر؛ لأن الشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل.
{ولا الليل سابق النهار}: ولا يدرك سواد الليل ضوء النهار، فيغلبه على ضوئه.
{وكل} الليل والنهار {في فلك يسبحون} في دوران يجرون يعني الشمس والقمر، يقول: وكلاهما في دوران يجريان إلى يوم القيامة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ" يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيذهب ضوؤها بضوئه، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، "وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ "يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه، فتكون الأوقات كلها ليلاً...
وقوله: "وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يقول: وكلّ ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يَجْرُون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره، ودلّ إجراؤه إياهما على مجرى واحد وسنن واحد منذ أنشأهما، وقدّرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم؛ أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزلي لا مستفاد ولا مكتسب.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَر} بل هما يسيران دائبين ولكلَ حدٌّ لا يعدوه ولا يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله: {وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى يسبحون يسيرون فيه بانبساط، وكل ما انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومنه السباحة في الماء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأنّ الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطىء سيرها عن سير القمر، [والقمر] خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله: {ولا الليل سابق النهار} قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار...
الفلك ماذا؟ نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة؛ لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة،
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
سمي الحول عاما؛ لأن الشمس عامت فيه حتى قطعت جملة الفلك، ولذلك قال الله تعالى: {وكل في فلك يسبحون}...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
إيلاء حرف النفي {الشمس} للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الآية من الاحتباك: نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها دليلاً على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً {وكل} أي من المذكورات حقيقة ومجازاً {في فلك} محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال: آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم كلهم دائماً: {يسبحون} حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها -لشدة الإلف لها- الجاهلون.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الجمع في قوله {يَسْبَحُونَ} باعتبار اختلاف مطالعهما، فكأنهما متعدّدان بتعدّدها، أو المراد: الشمس والقمر والكواكب...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قيل المراد بقوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه؛ فإنه سبحانه خص كلاً منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الآية الرابعة: المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السماوات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أخيراً يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق:
(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون)..
ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال.. وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية. وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! [أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!].
وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع -حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!
وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطاً سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.
وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة والكواكب السيارة، متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلِّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلَّمة بعلامات نجومية تسمى بُروجاً بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليماً بأن للشمس سيراً لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيراً لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقارباً لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى: {لا الشَّمْسُ يَنْبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتِّيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طَلبه، يقال: بغاه فانبغَى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوباً، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور، يقال: لا ينبغي لك كذا، ففرقٌ ما بين قولك: ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك: لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالى: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18].
والإِدراك: اللحاق والوصول إلى البُغية فقوله: {أن تُدرك} فاعل {يَنْبَغِي} فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمسِ القمرَ. والمعنى: نفي أن تصطَدم الشمس بالقمر، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإِفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقرراً في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمسُ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله: {لا الشَّمْسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} خُصوصيتان.
ولمَّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر، وكان القمر مقارناً لليل، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى: {ولاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أن الليل ليس بمفلتٍ للنهار، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة، {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} في سورة العنكبوت} (4)، والمعنى: أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخّر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأوَّلية بالسير؛ لأن ذلك لا يُتصور في تداول الليل والنهار، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداءَ التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين. والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخرِ فاستقرّ في الأفق لتعطلت منافع جمّة من حياة الناس والحيوان.
وفي الكلام اكتفاء، أي لأن التقدير: ولا القمرُ يدرك الشمسَ، ولا النهارُ سابق الليل.
وقوله: {وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} عطف على جملة {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر}. والواو عاطفة ترجيحاً لِجانب الإِخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل، وإلا فحقّ التذييل الفصل. وما أضيف إليه {كلّ} محذوف، وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوفِ، فالتقدير: وكلّ الكواكب.
وزيدت قرينة السياق تأكيداً بضمير الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.
والفَلَك: الدائرة المفروضة في الخلاء الجوّي لسير أحد الكواكب سيراً مطّرداً لا يحيد عنه، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها وبعض الأمم يتوهمون الشمس في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.
وسمّى العرب تلك الطرائق أفلاكاً واحدها فَلَك: اشتقوا له اسماً من اسم فَلْكَة المِغْزَل، وهي عُود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلفُّ المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفّيها فتلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسماً كُرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته؛ ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفَلَك. وسمّوا ما بين مبدأ المُدّتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك. ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي؛ لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله:
{يَسْبَحُونَ}، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة؛ أن طرائق سيرها دوائر وهمية؛ لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.
وجيء بضمير {يَسْبَحُونَ} ضمير جمع مع أن المتقدم ذِكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.
وجملة {كل في فلك} فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.
لا يقال: فلان لا يدرك فلاناً إلا إذا كان سابقه، كذلك الشمس لا تدرك القمر؛ لأنه كما قُلْنا سابقها وأسرع منها؛ لأنه يقطع دورته في شهر، وتقطع الشمس دورتها في سنة...
وقوله سبحانه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسبحون من السبح، وهو قَطْع المسافة على ماء لين، فهي حركة فيها انسيابية، ليست على أرض تدبّ عليها الأقدام، وهذا مثال لحركة الأفلاك، وهذه الحركة السبحية يكون كل جزء منها مُوزَّعاً على جزء من الزمن.
وهذه الحركة ليس لدينا المقاييس التي ندركها بها، إنما نعرفها من جملة الزمن مع جملة الحركة، فمثلاً لو وُلد لك مولود وجلستَ ترقبه وتلاحظ نموه، فإنك لا تلاحظ هذا النمو، ولا يكبر الولد في عين أبيه أبداً، لماذا؟
لأن نموه لا يأتي قفزةً واحدة يمكن ملاحظتها، إنما يُوزَّع النمو على الزمن، لكن إذا غِبْتَ عن ولدك عدة شهور أو سنوات فإنك تلاحظ نموه حين تعود وتراه؛ لأنك تلاحظ مجموع النمو طوال فترة غيابك عنه.
فمعنى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يعني: يسيرون سيراً انسيابياً متتابعاً يُوزَّع على الزمن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو اختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وانتظم بشكل كامل، تقول الآية: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون).
يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها، حيث أنّ الثابت علمياً حالياً أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز واستدارة ثدي البنت، ثمّ أطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاُخرى أيضاً، ومنه اُطلق على مسير الكواكب الدوراني.
«يسبحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات: المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها، وقد ثبت حالياً أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.