التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ} (40)

تدرك : تلحق .

الفلك : الأولى بفتح الفاء واللام بمعنى مدار السماء حيث تجري الشمس والقمر والنجوم ، وأصل معناه : الشكل الدائري . والثانية بضم الفاء واللام وهو مركب البحر .

{ وآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ 33 وجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وأَعْنَابٍ وفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ 34 لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ( 1 ) أَفَلَا يَشْكُرُونَ 35 سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ( 2 ) كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لَا يَعْلَمُونَ 36 وآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ ( 3 ) مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ 37 والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ( 4 ) لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 38 والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ ( 5 ) الْقَدِيمِ 39 لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ ( 6 ) الْقَمَرَ ولَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكُلٌّ فِي فَلَكٍ ( 7 ) يَسْبَحُونَ 40 وآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 8 ) 41 وخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ ( 9 ) مَا يَرْكَبُونَ 42 وإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ ( 10 ) ولَا هُمْ يُنقَذُونَ 43 إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا ومَتَاعًا إِلَى حِينٍ 44 } [ 33 44 ] .

والآيات استمرار للسياق أيضا . وجملة { وآية لهم } موصلة بين الفصل الأول السابق للقصة وبين هذا الفصل كما هو المتبادر . وقد احتوت تنبيها إلى مشاهد كون الله ونواميسه ونعمه على خلقه ، وتنديدا بالذين لا يشكرون ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة .

وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر . وقد جاءت كما يلهمه أسلوبها وفحواها في معرض البرهنة على قدرة الله على ما يعد الناس ويتوعدهم والتنبيه على أفضال الله عليهم ورحمته بهم ، في الأرض والسماء والبحار ، والتنديد بالذين لا يشكرونه ولا يرتدعون عن مواقف المكابرة والجحود ، وإنذارهم بأنه لو شاء لأهلكهم ومنع عنهم خيره وبرّه فلا يجدون لهم مغيثا ولا ناصرا ، وبأنه إذا لم يفعل ذلك فلا يكون إلاّ من قبيل الإمهال إلى حين ؛ كأنما يهيب بهم إلى اغتنام الفرصة السائحة قبل نفاد صبره وإنزال عذابه فيهم .

والآيات قوية نافذة . موجهة إلى القلب والعقل بسبيل ما جاءت من أجله من التذكير والعظة والبرهنة والإنذار .

ومع وجوب الإيمان بحقيقة ما احتوته الآيات من تقريرات متنوعة فإن أسلوبها وفحواها وجملة { وآية لهم } التي بدأت بها وتكررت في مقاطعها قد يفيد أن السامعين كانوا يعرفون ويحسون ويتصورون ما احتوته من مشاهد كونية وأرضية وسماوية وفق ما ذكر فيها . وبهذا تبدو الحكمة في ذلك وتكون الحجة القرآنية مستحكمة في السامعين .

ولقد روى الطبري والبغوي في سياق جملة { والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } حديثا عن أبي ذرّ الغفاري قال : " كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فلما غربت الشمس قال : يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب الشمس ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب فتسجد بين يدي ربّها ، ثم تستأذن بالرجوع فيؤذن لها وكأنّها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مكانها وذلك مستقرّها " .

وما جاء في الحديث أمر مغيّب فيجب الوقوف عنده إذا صحّ{[1743]} مع وجوب الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم حكمة كشأن حكمة الله في الآيات . ولعلّ من هذه الحكمة قصد التنبيه على إحاطة الله تعالى وتصرفه المطلق في الكون وفي الشمس التي هي من أعظم مشاهد هذا الكون . والله تعالى أعلم .

تعليق آخر على ما اعتاده بعضهم من محاولة استنباط النظريات العلمية من آيات القرآن .

لقد علّقنا في سياق تفسير سورة القيامة على ربط بعضهم بين الآية { بلى قادرين على أن نسوي بنانه 4 } وبين فنّ بصمات الأصابع الحديث . ونعود إلى التعليق مرة ثانية بمناسبة الآيات التي نحن في صددها والتي يقف بعضهم عندها وعند أمثالها لاستنباط قواعد فنية كونية منها أو تطبيق نظريات علمية عليها ، وبخاصة في صدد حركات الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار ، والإدلاء بآراء متنوعة هي أدخل في نطاق التكلّف والتزيد ، بل والغلوّ أكثر منها في نطاق الحقيقة في حين أن الآيات في مجموعها وأسلوبها وروحها تحمل الدليل على أن القصد منها هو لفت نظر الناس جميعا بأسلوب يفهمونه إلى ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله ، وكونه بقطع النظر عما أقام الله سبحانه الكون عليه من نواميس ونسب وقواعد دقيقة محكمة النظام مطردة السير والجريان . ونحن نرى في مثل هذه المحاولات إخراجا للقرآن الكريم عن هدفه الوعظي والتذكيري وتعريضا له للتعديل والجرح اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية على غير طائل ولا ضرورة .

ولقد جاء في( سورة يونس ) في صدد منازل القمر آية تفيد أن الله قدّر القمر منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب وهي : { هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 5 } فإذا لحظنا أن منازل القمر أو دوراته اليومية التي تتبدّل بها صوره كانت هي الوسيلة الممكنة المشاهدة لمعرفة حساب الأيام والأشهر والسنين بالنسبة للسامعين رغم كونها ليست دقيقة ، تبين لنا أن حكمة التنزيل إنما اقتضت أن يكون الخطاب كما جاء بسبيل تنبيه السامعين إلى نواميس كون الله وإثبات وجوده وقدرته على ما هو ملموح بقوة من فحوى السلسلة التي نحن في صددها ، وسياق آية( سورة يونس ) المذكورة وأمثالها ؛ لأنه كان هو المفهوم من قبل السامعين بمداه ومعناه . وتبين لنا مدى ما في تجاوز هذا النطاق إلى استخراج النظريات الفنية من القرآن أو تطبيقها على الآيات القرآنية من تجوّز وتمحّل وخروج بالقرآن عن نطاق حكمة تنزيله .

ونعود إلى التنبيه مرة أخرى في هذه المناسبة إلى أن ما قلناه لا يعني حظر دراسة أسرار الكون على المسلمين بمختلف الوسائل وعلى مختلف المستويات . فهذا شيء وذاك شيء آخر . بل إن إيذان الله تعالى للبشر ومن جملتهم المسلمين أن الله سخّر لهم ما في السماوات وما في الأرض ليوجب عليهم لأن الانتفاع بما سخّره لهم الله لا يتمّ إلاّ به . والله تعالى أعلم .

تعليق على تعبير : { ذلك تقدير العزيز العليم . . . }

وبمناسبة ورود تعبير : { ذلك تقدير العزيز العليم } نقول : إن كثيرا من المسلمين يسوقون هذا التعبير في معرض عقيدة القضاء والقدر وكمستند لها به ؛ في حين أنه قد جاء في معرض بيان أن الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار كل ذلك يجري ضمن حساب رباني مقدّر على أحسن أسلوب وأدق ترتيب . وبكلمة أخرى إن كلمة " تقدير " هنا تعني : الحساب الدقيق ، وليس لها صلة بعقيدة القدر ولا يصحّ سوقها في معرض ذلك .

نموذج آخر للتفسيرات الصوفية :

لقد قلنا في تعليقنا على هذه التفسيرات في سياق سورة الفجر : إن منها ما ليس فيه شذوذ فاحش . وهذا نموذج من ذلك حيث يفسر التستري الآية الأولى من هذه السلسلة بقوله : القلوب الميتة بالغفلة أحييناها بالتيقّظ والاعتبار والموعظة ، وأخرجنا منها حبا : معرفة صافية يضيء أنوارها على الظاهر والباطن{[1744]} .


[1743]:في التاج نصّ آخر فيه زيادة رواه البخاري والترمذي عن أبي ذرّ وهو: "قال أبو ذرّ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها. ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}" (التاج ج 4 ص 194) والزيادة متصلة بآية من آيات قيام الساعة وهي طلوع الشمس من مغربها حيث جاء في حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في علامات الساعة ومنها طلوع الشمس من مغربها (التاج ج 5 ص 304) ونرجّح أن حديث أبي ذرّ واحد روى بعضه راو وروى جميعه راو آخر. وطلوع الشمس من مغربها كعلامة من علامات الساعة مماثل لما ذكرته آيات عديدة في سور المزمل والتكوير والقيامة والمرسلات =من تبدّل مشاهد الكون عندما تأزفّ الساعة وتخرب الدنيا. وكل هذا مغيّب يجب الإيمان به والوقوف عنده وإيكال حكمته إلى الله تعالى. وليس معرفة كنهه والمماراة فيه من ضروريات الدين. والله تعالى أعلم.
[1744]:التفسير والمفسرون للذهبي ج 3 ص 31.