الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ} (40)

قوله تعالى : " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " رفعت " الشمس " بالابتداء ، ولا يجوز أن تعمل " لا " في معرفة . وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم : معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه . أي لكل واحد منهما سلطان على حياله ، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه ، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في آخر سورة " الأنعام " {[13216]} بيانه . وقيل : إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء . روي معناه عن ابن عباس والضحاك . وقال مجاهد : أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر . وقال قتادة : لكل حد وعلم لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا . وقال الحسن : إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة . أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر ، ولكن إذا غربت الشمس طلع القمر . يحيى بن سلام : لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها . وقيل : معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها . قاله ابن عباس أيضا . وقيل : القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه . ذكره النحاس والمهدوي . قال النحاس : وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يدفع : أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره المهدوي أيضا . فأما قوله سبحانه : " وجمع الشمس والقمر " [ القيامة : 9 ] فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر " الأنعام " {[13217]} ويأتي في سورة [ القيامة ] أيضا . وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة . " وكل " يعني من الشمس والقمر والنجوم " في فلك يسبحون " أي يجرون . وقيل : يدورون . ولم يقل تسبح ؛ لأنه وصفها بفعل من يعقل . وقال الحسن : الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة ؛ ولو كانت ملصقة ما جرت ذكره الثعلبي والماوردي . واستدل بعضهم بقوله تعالى : " ولا الليل سابق النهار " على أن النهار مخلوق قبل الليل ، وأن الليل لم يسبقه بخلق . وقيل : كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة ؛ كما قال : " وجمع الشمس والقمر " وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد . " لتعلموا عدد السنين والحساب " [ يونس :5 ] ويكون الليل للإجمام والاستراحة ، والنهار للتصرف . كما قال تعالى : " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " [ القصص : 73 ] وقال : " وجعلنا نومكم سباتا " أي راحة لأبدانكم من عمل النهار . فقوله : " ولا الليل سابق النهار " أي غالب النهار ، يقال : سبق فلان فلانا أي غلبه . وذكر المبرد قال : سمعت عمارة يقرأ : " ولا الليل سابق النهار " فقلت ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار فحذفت التنوين ؛ لأنه أخف . قال النحاس : يجوز أن يكون " النهار " منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين .


[13216]:راجع ج 7 ص 145 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13217]:راجع ج 7 ص 146 طبعة أولى أو ثانية.