اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ} (40)

قوله : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه{[46235]} وهو معنى قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أي يتعاقبان{[46236]} بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته . وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا ( يطلع ){[46237]} القمر{[46238]} بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ ( واحد ){[46239]} منهما صاحبه قامت القيامة . وقيل : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } لا تجتمع معه في فَلَك واحد { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } بصيغة الفعل وقوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ } بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل «سَبَقَ »{[46240]} ولا قال : لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر ؟ .

فالجواب : أن حركة الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال : يَخِيط ولا يكون تصدر منه الخِيَاطَةُ وأما حركة القمر فليست مختصةً بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك بسبب حركة فَلَكٍ{[46241]} لا يختص بكوكب فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق على{[46242]} اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال : فُلاَنٌ خَيَّاطٌ وإن لم يكن يَخِيط . فإن قيل : قوله : { يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] يدل على أن الليل سابق .

فالجواب : أن المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليَوْمِيَّةِ السريعة والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه طَالبُهُ .

فإن قيل : قد ذكر ههنا سابق ( النهار ){[46243]} وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه .

فالجواب : لما بينا{[46244]} ( من ){[46245]} أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركاتها بحركة{[46246]} الفَلَكِ فكأنها لا حَرَكَةَ لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زَمَانَانِ لا قرارَ لهما فهو يطلب حثيثاً لصدور المنقضي{[46247]} منه .

فإن قيل : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال : ولا القمرُ سابق الشَّمس .

فالجواب : لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهراً وإذا قال : ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللَّيْل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في اللّيل والنهار{[46248]} .

قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } قرأ عمارة{[46249]} بنصب «النَّهَار »{[46250]} حذف التنوين لالتقاء الساكنين .

قال المبرد : سمعته يقرؤها فقلت : ما هذا ؟ فقال : أردت سَابِقٌ - يعني بالتنوين- فخففت{[46251]} .

قوله : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يَجْرُون . وهذا يحقق أن لكلِّ طلوع في يوم وليلة لا يسبق بعضُها بعضا بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله : «كُلُّ » عوض عن الإضافة{[46252]} . والمعنى كل واحدٍ . وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكيرُ في شيءٍ واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف بالإضَافَةِ .

فإن قيل : فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها ؟ .

فالجواب : نعم ، لأن قول القائل : كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه ، فإذا قال : كُلّ كذا يدخل في الفهم عمومٌ أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في : «قَبْل وبَعْد » إذا قلت : أفعلُ قَبْلَ كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كُلِّ شَيْءٍ{[46253]} .

فإِنْ قِيلَ : فهل بين قولنا : «كُلٌّ منْهُمْ » وبين : «كُلّهم » وبين «كُلِّ » فرق ؟ .

فالجواب : نعم فقولك : كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم ، وقولك : كُلّ منهم يثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال : منْهم وقولك : كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت{[46254]} عليه{[46255]} . فإن قيل : إذا كان «كُلّ » معناه كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيْفَ قال : يَسْبَحُونَ ؟ .

فالجواب : أن قوله «كل » للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيَّاراً . وأيضاً فلفظ «كل » يجوز أن يوحَّد نظراً إلى كون لفظه مُوحِّداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعاً ، وأما التثنية فلا يدل عليه{[46256]} اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال : «زَيْدٌ وعمرٌو كُلُّ جَاءَ » ولا يقال : ( كل ){[46257]} جَاءَا بالتثنية . وجواب آخراً قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ } فالمراد من الليل الكواكب فقال : «يَسْبَحُونَ »{[46258]} .

فصل

الفلك هو الجسم{[46259]} المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكه المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلك الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود ، لئِلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة . فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرةً وقد اتفق أكثر المفسرين ( على ){[46260]} أنَّ السماءَ مبسوطةٌ لها أطراف على جبال وهي كالسَّقْفِ المُسْتَوِي ويدل عليه قوله تعالى : { والسقف المرفوع } [ الطور : 5 ] . قال ابن الخطيب : ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحِسِّيُّ على كونها مستديرةً فوجب المصير إليه والسقف والمقَبَّب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك{[46261]} كونه{[46262]} على جبال . وأما الدليل الحسي فوجوه :

الأول : أن من أمْعَنَ في النظر في جانب الجنوب تظهر{[46263]} له كواكب مثل سُهَيْل وغيره ظهوراً أبدياً ولو كان السماء سطحاً{[46264]} مستوياً لبان الكُلُّ للكلِّ بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بعضه حينئذ يستتر{[46265]} بأطراف الأرض فلا يُرَى .

الثاني{[46266]} : أن الشمس إذا كانت مقارنة للحَمَل مثلاً فإذا غربت ظهر لك كواكبُ في منطقة البروج من الحَمل إلى المِيزان ثم في كل قليل يستتر{[46267]} الكوكب الذي يكون طلوعه بعدَ طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير ( قَطْعيًّا ){[46268]} .

الثالث : أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورُها وإلا لما كان كذا بل كان ( عند ){[46269]} إعادتها إلى السماء يظهر لك أحد جِرْمُها ونورُها معاً لكون السماء مستوية ( حنيئذ{[46270]} مكشوفة كلها لكل أحد .

الرابع : لو كانت السماء مستويةً ) لكان القمرُ عندما يكون فوق رُؤُوسِنَا على المُسَامَتَةِ أقرب ما يكون إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمود أصغرُ من القُطْرِ والوتر وكذلك في الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلِكَ .

الخامس : لو كانت السماءُ مستويةً لكان ارتفاعها أَولَ النهار ووَسَطَهُ وآخِرَهُ مستوياً وليس كذلك . والوجوه كثيرة وفي هذا كفايةٌ .

فصل

قال المُنَجِّمُونَ قوله تعالى : { يَسْبَحُونَ } يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال ابن الخطيب إن أرادوا القَدْرَ الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } [ الصافات : 92 ] وقوله : { أَلا تَأْكُلُونَ } [ الصافات : 91 ] .


[46235]:معاني الفراء 2/378.
[46236]:في "ب" متعاقبان.
[46237]:سقط من "ب".
[46238]:في "ب" في النهار.
[46239]:سقط من "ب".
[46240]:في "ب" يسبق بالمضارعة.
[46241]:في "ب" تلك. اسم إشارة.
[46242]:في "ب" عليه.
[46243]:سقط من "ب".
[46244]:في "ب" لما بين.
[46245]:سقط من "ب".
[46246]:في "ب" بحركات.
[46247]:في الرازي التقصي وفي "ب" المقتضي. وانظر: تفسير الإمام الفخر 26/73 و 74.
[46248]:تفسير الإمام الفخر الرازي 26/73 و 74.
[46249]:لم أجده في مرجع من مراجع تراجم القراء وقد ترجم له الخطيب في التاريخ: "عمارة بن عقيل بن بلاب بن جرير من شعراء الدولة العباسية وكان النحوين يأخذون عنه". تاريخ بغداد 12/282 و 283، والأغاني 20/183.
[46250]:مختصر ابن خالويه 125 والمحتسب 2/81 وانظر: الخصائص 1/125 و 249 و 373و 318 وهي من الشواذ رواية وتجوز صنعا. وانظر: البحر 7/338 والسمين 4/519 و 520.
[46251]:نقله في كامله 1/253.
[46252]:الكشاف 3/324 والرازي 26/74.
[46253]:المرجع السابق.
[46254]:في "ب" ونزلت وفي الرازي المصدر السابق: وتتركه.
[46255]:التفسير الكبير للرازي 26/74.
[46256]:في الرازي: عليها.
[46257]:كذا وجد في الرازي وافتقد في "ب".
[46258]:انظر كل ما مضى في المرجع السابق.
[46259]:الرازي السابق وانظر: اللسان : "ف ل ك" 3464 و 3465.
[46260]:سقط من "ب".
[46261]:في "ب" ولذلك. وما في الرازي موافق لما هنا.
[46262]:في الرازي كونها.
[46263]:في "ب" يظهر وهو ما في الرازي.
[46264]:في "ب" مسطحا. وهو الموافق للرازي.
[46265]:في "ب" يستر بتاء واحدة وهو المخالف للرازي.
[46266]:في "ب" الثانية.
[46267]:كذا في الرازي وما في "ب" تستتر الكواكب.
[46268]:سقط من "ب".
[46269]:كذلك.
[46270]:ما بين القوسين كله وجد في الرازي وسقط من "ب".