البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ} (40)

{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } : ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه ، أي لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو ، قال الزمخشري : إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان ، وضرب له حداً معلوماً ، ودبر أمرهما على التعاقب .

فلا ينبغي للشمس أن لا يستهل لها ، ولا يصح ، ولا يستقيم ، لوقوع التدبير على العاقبة .

وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان ، على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره .

ولا يسبق الليل النهار ، يعني آية الليل آية النهار ، وهما النيران .

ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها .

انتهى .

وقال ابن عباس ، والضحاك : إذا طلعت ، لم يكن للقمر ضوء ؛ وإذا طلع ، لم يكن للشمس ضوء .

وقال مجاهد : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر .

وقال قتادة : لكل أحد حدّ لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا .

وقال ابن عباس أيضاً : إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، في منازل لا يشتركان فيها .

وقال الحسن : لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، أي لا تبقى الشمس حتى يطلع الفجر ، ولكن إذا غربت طلع .

وقال يحيى بن سلام : لا تدركه ليلة البدر خاصة ، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها .

وقيل : لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد ، وفك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس .

فإذا كان طريق الشمس أبعد ، قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي من البروج الاثني عشر ، في زمان تقطع الشمس فيه برجاً واحداً من فلكه .

وقال النحاس : ما قيل فيه ، وأبينه أن مسير القمر مسير سريع ، والشمس لا تدركه في السير .

انتهى ، وهو ملخص القول الذي قبله : { ولا الليل سابق النهار } ، لا يعارض قوله : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } لأن ظاهر قوله : { يطلبه حثيثاً } ، أن النهار سابق أيضاً ، فيوافق الظاهر .

وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله : { يطلبه حثيثاً } أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقه .

وفهم من قوله : { ولا الليل سابق النهار } ، أن الليل مسبوق لا سابق ، فأورده سؤالاً .

وقال : كيف يكون الليل سابقاً مسبوقاً ؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة .

والمراد من الليل هناك نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه . انتهى .

وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائداً على النهار ، وضمير المفعول عائداً على الليل .

والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل { يغشى اليل النهار } وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده .

وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي : سابق بغير تنوين ، النهار : بالنصب .

قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت : ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار ، فحذفت لأنه أخف .

انتهى ، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين .

وتقدّم شرح : { وكل في فلك يسبحون } في سورة الأنبياء .