المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (44)

44- وكذب أهل مدين رسولهم شعيبا ، وكذب فرعون وقومه رسول الله - موسى - . لقي هؤلاء المرسلون الكثير من الإنكار والتكذيب ، وقد أمهلت المكذبين لعلهم يثوبون إلى رُشدهم ويستجيبون لدعوة الحق ، ولكنهم افتروا وتمادوا في تكذيب رسلهم وإيذائهم ، وازدادوا إثماً على آثامهم فعاقبتهم بأشد أنواع العقاب ، فانظر في تاريخهم تجد كيف كان عقابي لهم شديداً ، حيث أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالعافية هلاكاً ، وبالعمران خراباً .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (44)

{ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين } تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه . { وكذب موسى } غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل ، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشنع { فأمليت للكافرين } فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة . { ثم أخذتهم فكيف كان نكير } أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (44)

قال : { وكذب موسى } لأن مُكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل .

وقوله : { فأمليتُ للكافرين } معناه فأمليت لهم ، فوُضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذِهم هو الكفر بالرسُل تعريضاً بالنذارة لمشركي قُريش .

والأخذ حقيقته : التناول لِما لم يكن في اليد ، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم ، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاءُ ذلك الإملاء بالتناول ، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده ، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم ، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [ سورة الأنبياء : 70 ] { وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين } مشير إلى سُوءِ عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد ، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك .

ومناسبة عَدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذُكر فيها من أُخذوا من الأقوام ، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبهاً بمشركي قُريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه . وألجأوه إلى الخروج من موطنه { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [ الحج : 40 ] مناسبةٌ لذكر قوم إبراهيم .

والإملاءُ : ترك المتلبّس بالعِصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نَجا ثم يؤخذ بالعقوبة .

والفاء في { فأمليت للكافرين } للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أُخر لهم ، وهو تعقيب موزع ، فلكل قوم من هؤلاء تعقيبُ إملائه ، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة ، فلذلك عطف فعلُه بحرف المهلة .

وعطفت جملة { فكيف كان نكير } بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ ، وهو استفهام تعجيبي ، أي فأعْجَب من نكيري كيف حصل . ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة مِحنة ، وبالحياة هلاكاً ، وبالعمارة خراباً فهو عبرة لغيرهم .

والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي يُنكَر عليه :

و { نكيرِ } بكسرة في آخره دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً .

وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم ، فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب ، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله ، وقد قال الحكماء : إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية ، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم .