مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (44)

أما قوله تعالى : { فأمليت للكافرين } يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة { فكيف كان نكير } استفهام تقرير( ي ) ، أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، أليس كان واقعا قطعا ؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتا وبالعمارة خرابا ؟ ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض . فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلابد من الرضاء والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب . واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام ، فكيف بذلك مع منزلته ، لكنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غما ، فأجرى الله عادته بأن يصبره حالا بعد حال ، وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا .

وههنا بحث ، وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم . قال الحسن : السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين : أحدهما : أن عند الله حد ( ا ) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه . والثاني : أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن ، فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن ، فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله : { حتى إذا استيأس الرسل } أي من إجابة القوم ، وقوله لنوح : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله : { فلما جاء أمرنا } أي بالعذاب نجينا هودا ، واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة ، فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير ؟ قلنا إذا كان رادعا لغيره وصادعا له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيرا .