{ بالبينات والزُّبر } أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب ، كأنه جواب : قائل قال : بم أرسلوا ؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلا في الاستثناء مع رجالا أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط ، أو صفة لهم أي رجالا ملتبسين بالبينات ، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض ، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإلزام . { وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه . { لتبين للناس ما نُزّل إليهم } في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه ، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل . { ولعلهم يتفكّرون } وإرادة أن يتأملوا فيه فينتبهوا للحقائق .
وقوله { بالبينات } متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات ، وقالت فرقة الباء متعلقة ب { أرسلنا } في أول الآية{[7314]} ، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً ، ففي الآية تقديم وتأخير ، { والزبر } الكتب المزبورة ، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت ، و { الذكر } في هذه الآية القرآن ، وقوله { لتبين } يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل ، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل ، وشرحك ما أشكل مما نزل ، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة ، وهذا قول مجاهد .
قوله { بالبينات } متعلّق بمستقر صفةً أو حالاً من { رجالاً } . وفي تعلّقه وجوه أخر ذكرها في « الكشاف » ، والباء للمصاحبة ، أي مصحوبين بالبينات والزبر ، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية . وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم
و { الزُّبُر } : جمع زبور وهو مشتقّ من الزبرْ أي الكتابة ، ففعول بمعنى مفعول . { والزبر } الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى عليه السلام وإن لم يكتبه عيسى .
ولعل عطف { الزبر } على { بالبينات } عطف تقسيم بقصد التوزيع ، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب ، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرّسّ وخالد بن سنان رسول عبس . ولم يذكر الله لنوح عليه السلام كتاباً .
وقد تجعل { الزّبر } خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود عليهما السلام والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر .
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذُكرت النتيجة المقصودة ، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين .
والذكر الكلام الذي شأنه أن يُذكر ، أي يُتلى ويكرّر . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة الحِجر ( 6 ) . أي ما كنتَ بدعاً من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر . والذكر : ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكراراً ليتذكروا ما اشتمل عليه . وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب .
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله : { بالبينات والزبر } إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بيّنةٌ وزبور معاً ، أي هو معجزة وكتاب شرع . وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر ، ولا معجزةٌ أخرى ، وقد قال الله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مُبين أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون } سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ) . وفي الحديث : أن النبي قال : " ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
والإظهار في قوله تعالى : { ما نزل إليهم } يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم ، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه : للناس . ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعاً لها ومبيناً لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه ، فيكون في معنى قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [ سورة النحل : 89 ] .
وإسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيانَ . واللّام على هذا الوجه لذكر العِلّة الأصلية في إنزال القرآن .
وفسر { ما نزل إليهم } بأنه عين الذكر المنزّل ، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينّه للناس ، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ سورة الأنبياء : 10 ] .
وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين : فإنزاله إلى النبي مباشرةً ، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم .
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني ، وتكون اللّام لتعليل بعض الحِكم الحافّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة ، فمنها أن يبيّنه النبي فتحصل فوائد العلم والبيان ، كقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس } [ سورة آل عمران : 187 ] .
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنّة ، وبيان مجمل القرآن بالسنّة ، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي إذ هو واسطته .
عطف { لعلهم يتفكرون } حكمة أخرى من حِكَم إنزال القرآن ، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى . فعلى الوجه الأول في تفسير { لتبين للناس } يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده ، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني: {بالبينات} بالآيات، {والزبر}، يعني: حديث الكتب، {وأنزلنا إليك الذكر}، يعني: القرآن، {لتبين للناس ما نزل إليهم} من ربهم، {ولعلهم}، يعني: لكي {يتفكرون} فيؤمنوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أرسلنا بالبينات والزّبُر رجالاً نوحي إليهم...
قال بعضهم:... معنى الكلام: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم...
وكان غيره يقول: إنما هذا على كلامين، يريد: وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً أرسلنا بالبينات والزبر...
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وأنزلنا إليك الذكر.
والبينات: هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزّبُر: هي الكتب، وهي جمع زَبُور، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته: إذا كتبته...
وقوله:"وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذّكْرَ" يقول: وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم. "لِتُبَيّنَ للنّاسِ "يقول: لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك. "وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ" يقول: وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأنزلنا إليك الذكر} قيل: أنزل إليك القرآن {لتبين للناس ما نزل إليهم} يحتمل قوله: {لتبين للناس} من أنباء الغيب وما غاب عنهم وما لله عليهم وما لبعضهم على بعض، وتبين لهم جميع ما يؤتون، وما يتقون، وما يحل، وما يحرم
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي إن البيانَ إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
... وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فبيَّن عن اللَّهِ، وأوْضَح، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم، فأعرب عن دين اللَّهِ، وأفصح...وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت رسل الملوك تقترن بما يعرف بصدقهم، قال -جواباً لمن كأنه قال: بأي دلالة أرسلوا؟ -: {بالبينات} المعرفة بصدقهم {والزبر} أي الكتب الهادية إلى أوامر مرسلهم. ولما كان القرآن أعظم الأدلة، أشار إلى ذلك بذكره مدلولاً على غيره من المعجزات بواو العطف، فقال- عاطفاً على ما تقديره: وكذلك أرسلناك بالمعجزات الباهرات -: {وأنزلنا} أي بما لنا من العظمة {إليك} أي وأنت أشرف الخلق {الذكر} أي الكتاب الموجب للذكر، المعلي للقدر، الموصل إلى منازل الشرف {لتبين للناس} كافة بما أعطاك الله من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق، واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها وقد أوصلك الله فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد {ما نزل} أي وقع تنزيله {إليهم} من هذا الشرع الحادي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل، وشرح ما أشكل، من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد، ومن البعث وغيره، وهو شامل لبيان الكتب القديمة لأهلها ليدلهم على ما نسخ، وعلى ما بدلوه فمسخ. ولما كان التقدير: لعلهم بحسن بيانك يعملون! عطف عليه بياناً لشرف العلم قوله تعالى: {ولعلهم يتفكرون} إذا نظروا أساليبه الفائقة، ومعانيه العالية الرائقة، فيصلوا بالفكر فيه -بسبب ما فتحت لهم من أبواب البيان- إلى حالات الملائكة، بأن تغلب أرواحهم على أشباحهم فيعلموا أنه تعالى واحد قادر فاعل بالاختيار، وأنه يقيم الناس للجزاء فيطيعونه رغبة ورهبة، فيجمعون بين شرفي الطاعة الداعية إليها الأرواح، والانكفاف عن المعصية الداعية إليها النفوس بواسطة الأشباح.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
...وأفضل أهل الذكر أهل هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم، ولهذا قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ْ} أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ْ} وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ْ} فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أرسلناهم بالبينات وبالكتب [والزبر: الكتب المتفرقة] (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) سواء منهم السابقون أهل الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم، فجاء القرآن ليفصل في هذا الخلاف. وليبين لهم وجه الحق فيه. أو المعاصرون الذين جاءهم القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم يبينه لهم ويشرحه بفعله وقوله (ولعلهم يتفكرون) في آيات الله وآيات القرآن فإنه يدعو دائما إلى التفكر والتدبر، وإلى يقظة الفكر والشعور.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بالبينات والزبر} قوله {بالبينات} متعلّق بمستقر صفةً أو حالاً من {رجالاً}... والباء للمصاحبة، أي مصحوبين بالبينات والزبر، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية. وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم و {الزُّبُر}: جمع زبور وهو مشتقّ من الزبرْ أي الكتابة، ففعول بمعنى مفعول. {والزبر} الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى عليه السلام وإن لم يكتبه عيسى. ولعل عطف {الزبر} على {بالبينات} عطف تقسيم بقصد التوزيع، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب... ولم يذكر الله لنوح عليه السلام كتاباً. وقد تجعل {الزّبر} خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود عليهما السلام والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر.
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذُكرت النتيجة المقصودة، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين. والذكر الكلام الذي شأنه أن يُذكر، أي يُتلى ويكرّر. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة الحِجر (6). أي ما كنتَ بدعاً من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر. والذكر: ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكراراً ليتذكروا ما اشتمل عليه. وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب.
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله: {بالبينات والزبر} إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بيّنةٌ وزبور معاً، أي هو معجزة وكتاب شرع. وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر، ولا معجزةٌ أخرى، وقد قال الله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مُبين أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون} سورة العنكبوت (50، 51). وفي الحديث: أن النبي قال:"ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
والإظهار في قوله تعالى: {ما نزل إليهم} يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه: للناس. ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعاً لها ومبيناً لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [سورة النحل: 89].
وفسر {ما نزل إليهم} بأنه عين الذكر المنزّل، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينّه للناس، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} [سورة الأنبياء: 10].
وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين: فإنزاله إلى النبي مباشرةً، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم. فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني، وتكون اللّام لتعليل بعض الحِكم الحافّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة، فمنها أن يبيّنه النبي فتحصل فوائد العلم والبيان، كقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس} [سورة آل عمران: 187].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنّة، وبيان مجمل القرآن بالسنّة، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي إذ هو واسطته.
عطف {لعلهم يتفكرون} حكمة أخرى من حِكَم إنزال القرآن، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى. فعلى الوجه الأول في تفسير {لتبين للناس} يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وسمى القرآن هنا ذكرا، لأنه مذكر الأنبياء السابقين ورسائلهم، ما نسخ منها وما بقي، ولأنه الذكر الدائم إلى يوم القيامة، ولأن الذين نزل فيهم القرآن شهدوا على الناس بأن ما نزل إليهم من شرائع حق، والله شهيد عليهم، ألم تر إلى الذين ادعوا أنهم أتباع عيسى وحرفوا العقيدة، وجعلوها وثنية مثلثة صحح القرآن عقيدتهم وردها إلى أصلها، وشهد القرآن والمؤمنون بالصادق، وبطل ما صنعوا وحرفوا وثلثوا.
...أما الزبر، فمعناها: الكتب المكتوبة.. ولا يكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة أن يضيع، وليس هنا أنفس مما يأتينا من منهج الله لينظم لنا حركة حياتنا.
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} كلمة الذكر وردت كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، وأصل الذكر أن يظل الشيء على البال بحيث لا يغيب، وبذلك يكون ضده النسيان.. إذن: عندنا ذكر ونسيان.. فكلمة "ذكر "هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه.. فما هو؟ الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم عليه السلام أخذ العهد على كل ذرة فيه، فقال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين "172 "} (سورة الأعراف) وأخذ العهد على آدم هو عهد على جميع ذريته، ذلك لأن في كل واحد من بني آدم ذرة من أبيه آدم.. وجزءاً حياً منه نتيجة التوالد والتناسل من لدن آدم حتى قيام الساعة، ومادمنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد: (ألست بربكم).
وكأن كلمة (ذكر) جاءت لتذكرنا بالعهد المطمور في تكويننا، والذي ما كان لنا أن ننساه، فلما حدث النسيان اقتضى الأمر إرسال الرسل وإنزال الكتب لتذكرنا بعهد الله لنا. {ألست بربكم قالوا بلى" 172 "} (سورة الأعراف).
ومن هنا سمينا الكتب المنزلة ذكراً، لكن الذكر يأتي تدريجياً وعلى مراحل.. كل رسول يأتي ليذكر قومه على حسب ما لديهم من غفلة.. أما الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء للناس كافة إلى قيام الساعة، فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذكر بعده، وهو القرآن الكريم. وقد تأتي كلمة (الذكر) بمعنى الشرف الرفعة كما في قوله تعالى للعرب: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" 10 "} (سورة الأنبياء)
وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن، وعاشت لغتهم بالقرآن، وتبوأوا مكان الصدارة بين الأمم بالقرآن. وقد يأتي الذكر من الله للعبد، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه: {فاذكروني أذكركم.. "152 "} (سورة البقرة) والمعنى: فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد وبثوابي. وإذا أطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الكتاب الجامع لكل ما نزل على الرسل السابقين، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أن تقوم الساعة.
كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب، لكنها إذا جاءت بالتعريف (الكتاب) انصرفت إلى القرآن الكريم، وهذا ما نسميه (علم بالغلبة) والذكر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معجزته الخالدة في الوقت نفسه، فهو منهج ومعجزة، وقد جاء الرسل السابقون بمعجزات لحالها، وكتب لحالها، فالكتاب منفصل عن المعجزة. فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه، لا ينفصل أحدهما عن الآخر لتظل المعجزة مساندة للمنهج إلى قيام الساعة. وهذا هو السر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته، فقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" 9 "} (سورة الحجر).
ومن الذكر أيضاً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن، وهو الحديث الشريف، فللرسول مهمة أخرى، وهي منهجه الكلامي وحديثه الشريف الذي جاء من مشكاة القرآن مبيناً له وموضحاً له كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته يحدث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وأنه ليس كذلك "
{لتبين للناس ما نزل إليهم} إذن: جاء القرآن كتاب معجزة، وجاء كتاب منهج، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط، ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج، وإلا لطالت المسألة، وتضخم القرآن وربما بعد عن مراده. فجاء القرآن بالأصول الثابتة، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة أن يبينه للناس، ويشرحه ويوضح ما فيه.
وقد يظن البعض أن كل ما جاءت به السنة لا يلزمنا القيام به؛ لأنه سنة يثاب من فعلها ولا يعاقب من تركها.. نقول: لا.. لابد أن نفرق هنا بين سنية الدليل وسنية الحكم، حتى لا يلتبس الأمر على الناس. فسنية الدليل تعني وجود فرض، إلا أن دليله ثابت من السنة.. وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه ثابتة بالسنة وهي فرض. أما سنية الحكم: فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.. فحين يبين لنا الرسول بسلوكه وأسوته حكماً ننظر: هل هي سنية الدليل فيكون فرضاً، أم سنية الحكم فيكون سنة؟ ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر، فإن واظب عليه والتزمه فهو فرض، وإن لم يواظب عليه فهو سنة. إذن: مهمة الرسول ليست مجرد مناولة القرآن وإبلاغه للناس، بل وبيان ما جاء فيه من المنهج الإلهي، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان.. ولابد أن نفرق بين العطائين: العطاء القرآني، والعطاء النبوي.
ويجب أن نعلم هنا أن من الميزات التي ميز بها النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر إخوانه من الرسل، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع، فقد كان الرسل السابقون يبلغون أوامر السماء فقط وانتهت المسألة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.." 7 "} (سورة الحشر). إذن: أخذ ميزة التشريع، فأصبحت سنته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم.
ثم يقول تعالى: {ولعلهم يتفكرون} (سورة النحل) يتفكرون.. في أي شيء؟ يتفكرون في حال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، حيث لم يؤثر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً، ولم يؤثر عنه أنه كان كاتباً متعلماً.. لم يعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف، لذلك أمرهم بالتفكر والتدبر في هذا الأمر. فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجرت هكذا مرة واحدة في الأربعين من عمره، فالعمر الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من العمر. ولا يعقل أن تؤجل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يصرعون حوله.. فيموت أبوه وهو في بطن أمه، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً، ثم يموت جده، فمن يضمن له الحياة إلى سن الأربعين، حيث تتفجر عنده هذه العبقرية؟! إذن: تفكروا، فليست هذه عبقرية من محمد، بل هي أمر من السماء؛ ولذلك أمره ربه تبارك وتعالى أن يقول لهم: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون "16 "} (سورة يونس) فكان عليكم أن تفكروا في هذه المسألة.. ولو فكرتم فيها كان يجب عليكم أن تتهافتوا على الإسلام، فأنتم أعلم الناس بمحمد، وما جربتم عليه لا كذباً ولا خيانة، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة، فما كان ليصدق عندكم ويكذب على الله.