المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

48- أغفل هؤلاء الكفار عن آيات الله حولهم ، ولم ينظروا ويتدبروا فيما خلقه الله من الأشياء القائمة ، تنتقل ظلالها وتمتد تارة يميناً وتارة شمالاً ، تابعة في ذلك لحركة الشمس نهاراً والقمر ليلاً ، وكل ذلك خاضع لأمر الله ، منقاد لأحكام تدبيره . لو تدبر المشركون هذا لعلموا أن خالقه ومدبره هو - وحده - المستحق للعبادة والخضوع ، القادر على إهلاكهم لو أراد .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

{ أوَلم يروا إلى ما خلق الله من شيء } استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه ، وما موصولة مبهمة بيانها . { يتفيّأ ظلالُه } أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة . وقرأ حمزة والكسائي " تَروْا " بالتاء وأبو عمرو " تتفيؤ " بالتاء . { عن اليمين والشمائل } عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها ، استعارة من يمين الإنسان وشماله ، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله : { سُجّداً لله وهم داخرون } وهما حالان من الضمير في ظلاله ، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال { وهم داخرون } حال من الضمير . والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها ، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها ، وجمع { داخرون } بالواو لأن من جملتها من يعقل ، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . وقيل المراد ب " اليمين والشمائل " يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض ، فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا » بالياء على لفظ الغائب ، وكذلك في العنكبوت{[7320]} ، فهي جارية على قوله : { أو يأخذهم } ، وقوله : { أو يأتيهم } وقوله : { لا يشعرون } ، ورجحها الطبري ، وقرأ حمزة والكسائي «أولم تروا » بالتاء في الموضعين ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما : أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا ، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً ، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق ، واختلف عنه في العنكبوت ، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل ، والرؤية هنا هي رؤية القلب ، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين ، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة عيسى ويعقوب ، وقرأ الجمهور «يتفيأ » ، قال أبو علي : إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان ، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس ، فيعم ، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب ، وكذلك قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشي تذوق{[7321]}

فهو على المهيع{[7322]} ، وكذلك قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]

تَتَبع أفياء الظلال عشية . . . على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرىء القيس :

يفيء عليها الظل{[7323]} . . . وأما النابغة الجعدي فقال : [ الخفيف ]

فسلام الإله يغدو عليهم . . . وفيء الفردوس ذات الظلال{[7324]}

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال فيء وظل ، ولا يقال قبله إلا ظل فقط ، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة ، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى : { ما أفاء الله }{[7325]} [ الحشر : 7 ] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره ، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء ، وهو في المعنى لجمع ، وقرأ الثقفي «ظُلَلُه » بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء ، وقوله { عن اليمين والشمائل } أفرد اليمين وهو يراد به الجمع ، فكأنه للجنس ، والمراد عن الأيمان والشمائل ، كما قال الشاعر : [ جرير ]

الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ . . . قد عض أعناقهم جلد الجواميس{[7326]}

وكما قال الآخر :

ففي الشامتين الصخر إن كان هدني . . . رزية شبلي مخدر في الضراغم{[7327]}

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر ، أي تقدره ذا يمين وشمال ، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية ، وفيه تجوز واتساع ، ومن ذهب إلى أن { اليمين } من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب ، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب ، وما قال بعض الناس من أن { اليمين } أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال ، ولذلك جمع { الشمائل } ، وأفرد { اليمين } ، فتخليط من القول يبطل من جهات ، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة ، وظلال متقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء ، وفي هذا القول تجوز في تفيأ ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال ، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل ، وقالت فرقة «الظلال » هنا الأشخاص هي المراد أنفسها ، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل ، ومنه قول عبدة بن الطيب : [ البسيط ]

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية . . . وفار للقوم باللحم المراجيل{[7328]}

وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

تتبع أفياء الظلال عشية . . . {[7329]} أي أفياء الأشخاص .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قد قدره ، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة ، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت ، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة ، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود ، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها . . . كما سجدت نصرانة لم تحنف{[7330]}

والداخر المتصاغر المتواضع ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]

فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس . . . ومنجحر في غير أرضك في حجر{[7331]}


[7320]:في قوله تعالى في الآية (19): {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير}.
[7321]:قال حميد هذا البيت يصف سرحة، وكنى بها عن امرأة، وقال في (اللسان ـ فيأ): "وإنما سمي الظل فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب"، ونقل عن ابن السكيت قوله: "الظل: ما نسخته الشمس، والفيء: ما نسخ الشمس"، وقد وضح الشاعر في هذا البيت أن الظل بالغداة، وهو ما لم تنله الشمس، وأن الفيء بالعشي، وهو ما انصرفت عنه الشمس. والسرحة: واحدة السرح، وهو شجر عظام طوال.
[7322]:المهيع من الطرق: البين، وجمعه مهايع. (المعجم الوسيط).
[7323]:هذا جزء من بيت، وهو بتمامه: تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طام وهو من قصيدة له يرد على سبيع بن عوف بن مالك الذي قال فيه أبياتا يذمه، وضارج: جبل معروف، والعين نبع عند ضارج، والعرمض: الطحلب الأخضر الذي يتغشى الماء كأنه نسج العنكبوت، و يسمى بالطحلب إذا كان في جوانب الماء، يقال: عرمض الماء عرمضة: علاه العرمض، وطام: مرتفع، يقول: إن ناقتي قصدت العين التي عند ضارج، وهي عين يفيء عليها الظل، ويرتفع فوقها الطحلب.
[7324]:الفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين " مذكر ومؤنث"، أو الوادي الخصيب، أو المكان تكثر فيه الكروم، وكل ذلك جائز هنا، والشاهد في البيت أن النابغة الجعدي تجوز لأنه جعل الفيوء حيث لا رجوع، بخلاف المألوف المعروف في الأمثلة الأخرى.
[7325]:من الآية (7) من سورة (الحشر).
[7326]:البيت لجرير، و هو في هجاء عمر بن لجأ التيمي، والرواية في الديوان: "تدعوك ثيم وثيم"، ويريد بقوله: "عض أعناقهم جلد الجواميس" أنهم أسرى وفي أعناقهم أطواف من جلد الجواميس، وهو جلد غليظ متين، والشاهد أن الشاعر هنا أفرد فقال: "جلد الجواميس"، ولم يقل: "جلود الجواميس" في مقابلة قوله: "أعناقهم".
[7327]:البيت للفرزدق، وهو من قصيدة له يرثي انبين له. والشامتون: جمع شامت و هو الذي يفرح في بلية الإنسان، و هدني: أوهن ركني، والمخدر: الأسد، والضراغم: جمع ضرغام وهو الأسد أيضا، فهو يتجلد و يتحمل مصيبته في فقد ولديه حتى لا يشمت فيه الشامتون الحاقدون، والشاهد أنه أفرد اليمين وجمع الشمائل، لأن معنى الكلام في الآية الكريمة: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه ـ أي: ما خلق ـ وشمائله، فلفظ [ما] لفظ واحد و معناه معنى الجمع، فقال سبحانه: {عن اليمين} بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى معنى [ما] في [الشمائل].
[7328]:عبدة بن الطبيب من بني عبشمس بن كعب، وهو شاعر مخضرم ، أدرك الإسلام وأسلم، وشهد مع المثنى قتال هرمز، وله في ذلك آثار مشهورة. والأخبية: جمع خباء، و هو البيت من الوبر أو الشعر أو الصوف يكون على عمودين أو ثلاثة ، و المراجيل: قدور من الطين أو النحاس يطبخ فيها، وقد وضح المؤلف الشاهد في البيت.
[7329]:هذا صدر بيت قاله علقمة الفحل، وقد سبق الاستشهاد به قبل ذلك بقليل (ص 431 هامش 2) من هذا الجزء، والبيت بتمامه: تتبع أفياء الظلال عشية على طرق كأنهن سيوب
[7330]:البيت لأبي الأخزر الحماني، وفيه يصف الشاعر ناقتين خرتا من الإعياء والتعب، أو نحرتا فطأطأتا رأسيهما، فشبه الشاعر سجودهما بسجود النصرانة، وقد سبق الاستشهاد به في هذا الجزء (ص 309، هامش 1) والشاهد هنا أنه عبر عن طأطأة الرأس بالسجود.
[7331]:البيت شاهد على أن معنى الداخر: الصاغر، وقد استشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن"، وذكره صاحب اللسان في (خيس)، و نسبه إلى الفرزدق، قال في اللسان: "وكل سجن: مخيس ومخيس ـ بتشديد الياء مفتوحة و مكسورة، والمنجحر ـ بتقديم الجيم على الحاء ـ : الداخل في الجحر، يقال: أجحره: أدخله الجحر فدخله، والجحر: كل مكان تحتفره الهوام والحيوانات لأنفسها، والجمع: أحجار و جحرة، يقول: إن أعداء جميعا أذلاء صاغرون في السجون والأجحار. ورواية الديوان: و منحجر بتقديم الحاء على الجيم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلّها مشعرةٍ بخضوعها لله تعالى خضوعاً مقارناً لوجودها وتقلّبها آناً فَآناً علم بذلك من علمه وجهله من جهله . وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لِما لا علم له ، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقاً ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى ، وذلك في أشدّ الأعراض مُلازمةً للذوات ، ومطابَقَةً لأشكالها وهو الظلّ .

وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى : { وظلالهم بالغدوّ والآصال } في سورة الرعد ( 15 ) .

فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف القصّة على القصّة .

والاستفهام إنكاري ، أي قد رأوا ، والرؤية بصرية .

وقرأ الجمهور { أولم يروا } بتحتية . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { أولم تروا } بالمثناة الفوقية على الخطاب على طريقة الالتفات .

و { من شيء } بيانٌ للإبهام الذي في { ما } الموصولة ، وإنما كان بياناً باعتبار ما جرى عليه من الوصف بجملة { يتفيؤا ظلاله } الآية .

والتفيُّؤُ : تفعّل من فاء الظلّ فيئاً ، أي عاد بعد أن أزالَه ضوءُ الشمس . لعلّ أصلهُ من فاء إذا رجع بعد مغادرة المكان ، وتفيؤ الظلال تنقّلها من جهات بعد شروق الشمس وبعد زوالها .

وتقدم ذكر الظلال عند قوله : { وظلالهم بالغدو والآصال } في سورة الرعد ( 15 ) .

وقوله : { عن اليمين والشمائل } ، أي عن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظلّ إذ يكون عن يمين الشخص مرّة وعن شماله أخرى ، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها .

وليس المراد خصوص اليمين والشمال بل كذلك الأمام والخَلْف ، فاختصر الكلام .

وأفرد اليمين ، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المَشرق . وجمع { الشمائل } مراداً به تعدّد جنس جهة الشمال بتعدّد أصحابها ، كما قال : { فلا أقسم برب المشارق } [ سورة المعارج : 40 ] . فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنّن .

ومجيء { فعل يتفيؤا } بتحتية في أوله على صيغة الإفراد جرى على أحد وجهين في الفعل إذا كان فاعله جمعا غير جمع تصحيح ، وبذلك قرأ الجمهور . وقرأ أبو عمرو ويعقوب { تتفيأ } بفوقيتين على الوجه الآخر .

وأفرد الضمير المضاف إليه ( ظلال ) مراعاةً للفظ { شيء } وإن كان في المعنى متعدّداً ، وباعتبار المعنى أضيف إليه الجمع .

و { سجداً } حال من ضمير { ظلاله } العائد إلى { من شيء } فهو قيد للتفيّؤ ، أي أن ذلك التفيّؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه . وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى : { وظلالهم بالغدوّ والآصال في سورة الرعد .

وجملة { وهم داخرون } في موضع الحال من الضمير في { ظلاله } لأنه في معنى الجمع لرجوعه { ما خلق الله من شيء } . وجُمع بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء تغليباً لأن في جملة الخلائق العقلاء وهم الجنس الأهمّ .

والدّاخر : الخاضع الذّليل ، أي داخرون لعظمة الله تعالى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم وعظ كفار مكة ليعتبروا في صنعه، فقال سبحانه: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} في الأرض، {يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا}، وذلك أن الشجر والبنيان والجبال والدواب وكل شيء إذا طلعت عليه الشمس يتحول ظل كل شيء عن اليمين قبل المغرب، فذلك قوله سبحانه: {يتفيأ ظلاله}، يعني: يتحول الظل، فإذا زالت الشمس، تحول الظل عن الشمال قبل المشرق، كسجود كل شيء في الأرض لله تعالى... {لله}، يقول: {وهم داخرون}، يعني: صاغرون.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

... أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسم قائم شجر أو جبل أو غير ذلك "يَتَفَيّأُ ظِلالَهُ عَنِ اليَمِينِ والشّمَائِلِ "يقول: يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أوّل النهار على حال، ثم يتقلّص، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار.

وكان ابن عباس يقول في قوله: "يَتَفَيّأُ ظِلالُهُ": تتميل.

واختلف في معنى قوله: "سُجّدا لِلّهِ"؛

فقال بعضهم: ظلّ كلّ شيء سجوده.

وقال آخرون: بل عنى بقوله: "يَتَفَيّأُ ظِلالُهُ" كلاّ عن اليمين والشمائل في حال سجودها، قالوا: وسجود الأشياء غير ظلالها.

وقال آخرون: بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر في هذه الآية أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب وناحية إلى ناحية، كما قال ابن عباس يقال من ذلك: سجدت النخلة إذا مالت، وسجد البعير وأسجد: إذا أميل للركوب.

"وَهُمْ دَاخرُونَ" يعني: وهم صاغرون.

وأما توحيد اليمين في قوله: عَنِ اليَمِينِ و «الشّمائِلِ» فجمعها، فإن ذلك إنما جاء كذلك، لأن معنى الكلام: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه: أي ما خلق، وشمائله. فلفظ «ما» لفظ واحد، ومعناه معنى الجمع، فقال: «عن اليمين» بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى معناه في الشمائل. وكان بعض أهل العربية يقول: إنما تفعل العرب ذلك، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد، فيقال للرجل: خذ عن يمينك، قال: فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله} قوله: {أولم يروا} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن قال ذلك لقوم قد تقرر عندهم وثبت أن كل شيء يسجد لله ويخضع له. فقال ذلك لهم على العتاب: إنكم قد علمتم أن كل شيء لم يركب فيه العقل ولم يجعل فيه الفهم والسمع، يخضع له ويسبح له، وأنتم لا تخضعون له مع ما ركب فيكم العقول، وجعل فيكم الأفهام وغيرها.

والثاني: على الأمر؛ أي اعلموا أن كل شيء من خلق الله يسجد لله ويخضع، وقد أقام لهم من الحجة على ذلك ما لو تأملوا وتفكروا لعلموا أن كل ذلك يخضع ويسبح، وإلا ظاهر قوله: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله} أن يقولوا {ألم تر} أن كان الخطاب لأهل مكة على ما ذكره أهل التأويل؟ لكن يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرهما. ويشبه أن يكون ذكر قوله: {أو لم يروا إلى ما خلق الله} الآية لما استوحش أهل الإسلام مما عبد أولئك الكفرة الأصنام، وعظم ما قالوا في الله، فقال لذلك: {أو لم يروا إلى} كذا.

وقوله تعالى: {يتفيأ ظلاله} قال بعضهم: يريد بالظلال شخص ذلك الشيء، والظلال كناية عن الشخص؛ كما يقال: رأيت ظل فلان أي شخصه، وقال بعضهم: أراد بالظل الظل نفسه. لكن خضوعه وسجوده يكون للشمس والقمر. وعلى تأويل من يجعل الظل كناية عن الشخص يجعل كل نفس تتفيأ خضوعا وسجودا. ثم معنى سجود هذه الأشياء الموات، وخضوعهن من قوله: {يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا}. ومن نحو. قوله: {يسبحن بالعشي والإشراق} (ص: 18) وقوله: {يا جبال أوبي معه والطير} (سبأ: 10) وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: 44) وقوله: {تكاد السماوات يتفطرن منه} (مريم: 90) وأمثاله يحتمل وجوها:

أحدها: أن يجعل الله سبحانه وتعالى بلطفه في سيرة الأشياء معنى تعلم السجود لله والخضوع له؛ وهو ما ذكر في الريح التي {تجري بأمره رخاء حيث أصاب} (ص: 36) أخبر أنها تجري بأمره، دل أنها تعلم أمر الله وقوله: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} (فصلت: 20 و 21) أخبر أنها تشهد، وتنطق، ولو أنها (لا) تفهم، ولا تعلم الخطاب ما خوطبت، وإن كانت مواتا. فعلى ذلك تسبيحها وخضوعها جائز أن يكون الله يجعل في سيرة هذه الأشياء ما تعرف السجود والتسبيح، وتفهمه.

والثاني: يكون سجود هذه الأشياء وتسبيحها بالتسخير؛ جعلها مسخرات لذلك، وإن لم تعلم هي ذلك، ولم تعرف، لكن جعلها بالخلقة كذلك.

والثالث: أنه جعل خلقة هذه الأشياء دالة شاهدة على وحدانية الله وألوهيته؛ فهن مسبحات لله وساجدات وخاشعات له بالخلقة التي جعلها دالة وشاهدة على وحدانية الله وألوهيته. هذا، والله أعلم، معنى سجودهن وخضوعهن.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"سجدا لله وهم داخرون" معناه: إنها خاضعة لله ذليلة، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها، بما لولاه لبطلت، ولم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذاته، كأنه من بسط الشمس عليه في أول النهار ثم قبضها عنه إلى الجهة الأخرى ثم قبضها أيضا عنه، فتغيرت حاله. والتغيير يقتضي مغيرا غيره ومدبرا دبره.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كل مخلوقٍ من عين أو أثر، مِنْ حَجَر أو مَدَرٍ أو غَبَرٍ فلله- من حيث البرهان -ساجد، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد..

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

...وأما الفرق بين الفيء والظل: فيقال: إن الظل بالغداة، والفيء بالعشي، ويقال: إن معناهما واحد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي، وتدبير أحوال الأرواح والأجسام، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة، والقوة الغير المتناهية، لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.

المسألة الثالثة: قوله: {أو لم يروا إلى ما خلق الله} لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت ب (إلى)، لأن المراد به الاعتبار، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله...

أما قوله: {عن اليمين والشمائل} ففيه بحثان: البحث الأول: في المراد باليمين والشمائل قولان:

القول الأول: أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شمال. إذا عرفت هذا فنقول: إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وعلى هذا التقدير: فالإظلال في أول النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض.

{وهم داخرون} حال أيضا من الظلال. فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟ قلنا: لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

عن اليمين والشمائل:... وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدئ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها، أو تيمناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف.

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ: أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية: هذا من جهة المعنى، وفيه من جهة اللفظ المطابقة، لأنّ سجداً جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز انتهى. والظاهر حمل الظلال على حقيقتها، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله: عاطفاً على ما تقديره: أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم: {أولم} ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى: {يروا} بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى: {إلى ما خلق الله} أي الذي له جميع الأمر {من شيء} أي له ظل {يتفيؤا} أي تترجع إلى جهة الشاخص {ظلاله} وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له {عن اليمين} وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله: {والشمائل} لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء.

ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى "ما "في قوله: {سجداً} أي حال كونهم خضعاً {لله} أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم.

ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً: {وهم داخرون} ذلاً وصغاراً، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر، ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أفأمن الذين مكروا السيئات أن يأخذهم الله؟ فهم لاجون في مكرهم سادرون في غيهم لا يثوبون ولا يتقون. ذلك والكون من حولهم بنواميسه وظواهره يوحي بالإيمان، و يوحي بالخشوع: (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون).. ومشهد الظلال تمتد وتتراجع، تثبت وتتمايل، مشهد موح لمن يفتح قلبه، ويوقظ حسه، ويتجاوب مع الكون حوله. والسياق القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود -وهو أقصى مظاهر الخضوع- ويوجه إلى حركة الظلال المتفيئة -أي الراجعة بعد امتداد- وهي حركة لطيفة خفية ذات دبيب في المشاعر وئيد عميق.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلّها مشعرةٍ بخضوعها لله تعالى خضوعاً مقارناً لوجودها وتقلّبها آناً فَآناً علم بذلك من علمه وجهله من جهله. وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لِما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقاً ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشدّ الأعراض مُلازمةً للذوات، ومطابَقَةً لأشكالها وهو الظلّ. وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} في سورة الرعد (15). فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف القصّة على القصّة. والاستفهام إنكاري، أي قد رأوا، والرؤية بصرية.

وأفرد اليمين، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المَشرق. وجمع {الشمائل} مراداً به تعدّد جنس جهة الشمال بتعدّد أصحابها، كما قال: {فلا أقسم برب المشارق} [سورة المعارج: 40]. فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنّن.

و {سجداً} حال من ضمير {ظلاله} العائد إلى {من شيء} فهو قيد للتفيّؤ، أي أن ذلك التفيّؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ والآصال في سورة الرعد.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{أو لم يروا} المعنى: أعموا ولم يروا ولم يتدبروا فيها خلق الله؟. {من شيءٍ} كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس، و (من) تفيد ابتداء ما يقال له شيء، أي: أتفه شيء موجود، وهذا يسمونه أدنى الأجناس.. وتفيد أيضاً العموم فيكون: {من شيءٍ} أي: كل شيء. فانظر إلى أي شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظلاً: {يتفيأ ظلاله} يتفيأ: من فاء أي: رجع، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس، أو عودة الشمس إلى الظل.

فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين: ظل ثابت مستمر، وظل متغير، فالظل الثابت دائماً في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس، كقاع البحار وباطن الأرض، فهذا ظل ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات. والظل المتحرك الذي يسمى الفيء لأنه يعود من الظل إلى الشمس، أو من الشمس إلى الظل، إذن: لا يسمى الظل فيئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه. ولكن.. كيف يتكون الظل؟ يتكون الظل إذا ما استعرض الشمس جسم كثيف يحجب شعاع الشمس، فيكون ظلاً له في الناحية المقابلة للشمس، هذا الظل له طولان وله استواء واحد. طول عند الشروق إلى أن يبلغ المغرب، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس، فإذا ما استوت الشمس في السماء يصبح ظل الشيء في نفسه، وهذه حالة الاستواء، ثم تميل الشمس إلى الغروب، وينعكس طول الظل الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق. ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا "45 "ثم قبضناه إلينا قبضا يسيراً "46 "} (سورة الفرقان).

ذلك لأنك لو نظرت إلى الظل وكيف يمتد، وكيف ينقبض وينحسر لوجدت شيئاً عجيباً حقاً.. ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سيراً انسيابياً. ما معنى: (انسيابي)؟ هو نوع من أنواع الحركة...تعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة.. أي: حركة مستمرة وموزعة بانتظام على الزمن... وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية، بحيث توزع جزئيات الحركة على جزئيات الزمن، فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً، لا.. بل مركونة إلى أمر الله، موصولة بكن الدائمة. وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلفت خلقه إلى ظاهرة كونية في الوجود محسة، يدركها كل منا في ذاته، وفيما يرى من المرائي، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظل التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته. وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: {وظلالهم بالغدو والآصال" 15 "} (سورة الرعد) فالحق سبحانه يريد أن يعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله، كما قال تعالى: {وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" 44 "} (سورة الإسراء) فكل ما يطلق عليه شيء فهو يسبح مهما كان صغيراً.

{يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل} لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني، حيث أتى باليمين مفرداً، في حين أتى بالشمائل على صورة الجمع؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء} أتى بأقل ما يتصور من مخلوقاته سبحانه (من شيء) وهو مفرد، ثم قال سبحانه: {ظلاله} بصيغة الجمع، أي: مجمع هذه الأشياء، فالإنسان لا يتفيأ ظل شيء واحد، لا.. بل ظل أشياء متعددة. و (من) هنا أفادت العموم: {من شيء} أي: كل شيء، فليناسب المفرد جاء باليمين، وليناسب الجمع جاء بالشمائل.

ثم يقول تعالى: {سجداً لله وهم داخرون} فما العلاقة بين حركة الظل وبين السجود؟. معنى: سجداً أي: خضوعاً لله، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليل على أنه موصول بالمحرك الأعلى له، والقائل الأعلى ل "كن"، والظل آية من آياته سبحانه مسخرة له ساجدة خاضعة لقوله: كن فيكون. وقلنا: إن هناك فرقاً بين الشيء تعده إعداداً كونياً، والشيء تعده إعداداً قدرياً.. فصانع القنبلة الزمنية يعدها لأن تنفجر في الزمن الذي يريده، وليس الأمر كذلك في إعداد الكون. الكون أعده الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كن، وفي انتظار لهذا الأمر الإلهي باستمرار (كن فيكون). وهكذا.. فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً، لا.. بل مضبوطة قدرياً. لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول: باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها، ويرتب على هذا الحكم أشياء أخرى.. نقول: لا.. ليس الأمر كذلك.. فالشمس خاضعة للإعداد القدري منضبطة به ومنتظرة ل" كن "التي يصغي لها الكون كله؛ ولذلك يقول تعالى: {كل يومٍ هو في شأنٍ" 29 "} (سورة الرحمن) هكذا بينت الآية الكريمة أن كل ما يقال له "شيء" يسجد لله عز وجل، وكلمة "شيء" جاءت مفردة دالة على العموم.. وقد عرفنا السجود فيما كلفنا الله به من ركن في الصلاة، وهو منتهى الخضوع، خضوع الذات من العابد للمعبود، فنحن نخضع واقفين، ونخضع راكعين، ونخضع قاعدين، ولكن أتم الخضوع يكون بأن نسجد لله.. ولماذا كان أتم الخضوع أن نسجد لله؟. نقول: لأن الإنسان له ذات عامة، وفي هذا الذات سيد للذات، بحيث إذا أطلق انصرف إلى الذات، والمراد به الوجه؛ لذلك حينما يعبر الحق تبارك وتعالى عن فناء الوجود يقول: {كل شيء هالك إلا وجهه.. "88 "} (سورة القصص) وكذلك في قوله: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" 20 "ولسوف يرضى" 21 "} (سورة الليل). فيطلق الوجه ويراد به الذات، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دل ذلك على خضوع الذات كلها؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل. كما دلت الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه، والظلال قد تكون لجمادات كالشجر مثلاً، أو بناية أو جبل، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظلها أيضاً ثابتاً لا يتحرك، أما ظل الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك، وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال؛ لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً، وهذا مثال للخضوع الكامل. ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله: {وظلالهم بالغدو والآصال "15 "} (سورة الرعد) يعني الذوات تسجد، وكذلك الظلال تسجد؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر.. يقول: أيها الكافر ظلك ساجد وأنت جاحد..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...وإِذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة.. إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.