{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال ، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس ، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان . زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن . { كان من الجنّ } حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم يسجد فقيل كان من الجن . { ففسق عن أمر ربه } فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب ، وفيه دليل على أن الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنياً في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة " البقرة " . { أفتتخذونه } أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب . { وذرّيته } أولاده أو أتباعه ، وسماهم ذرية مجازاً . { أولياء من دوني } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي . { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } من الله تعالى إبليس وذريته .
وقوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } الآية ، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم ، صغيرها وكبيرها ، وتقدير الكلام : واذكر إذ قلنا ، وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة ، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادىء الأمور ، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف ، ووضع الوجه بالأرض ، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم ، فهذا كالصلاة للكعبة ، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض ، وذلك يسمى سجوداً لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر{[7824]} . . . وهذا جائز أن يكلفه قوم ، فمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم »{[7825]} ، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ، ذكره سعيد بن منصور في مصنفه ، وقوله { إلا إبليس } قالت فرقة هو استثناء منقطع ، لأن { إبليس } ليس من الملائكة ، بل هو من الجن ، وهم الشياطين المخلوقين من مارج من نار ، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور ، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن ، وهو أولهم ، وبدءتهم ، كآدم من الإنس ، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله جناً ، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته ، فهو كنوح في الإنس ، احتجوا بهذه الآية ، وتعنيف { إبليس } على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة ، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل ، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار ، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون ، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين ، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض ، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى ، إذ كان متصرفاً بالأمر والنهي ، مرسلاً ، والملك مشتق من المالكة ، وهي الرسالة{[7826]} ، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول { اسجدوا } وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور ، وقوله { ففسق } معناه فخرج وانتزح ، وقال رؤبة : [ الرجز ]
تهوين في نجد وغوراً غائراً . . . فواسقاً عن قصدها جوائرا{[7827]}
ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة ، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة ، إنما هو في فساد ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم{[7828]} إنما هن مفسدات » وقوله { عن أمر ربه } يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه ، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد ، أي منه ، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها ، و { عن } قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة ، كقولك أطعمتني عن جوع ، ونحوه ، فكأن المعنى : فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر » ، إذ هي أحد الأمور ، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك ، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية : كان إبليس من أشرف صنف ، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض ، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون ، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه ، كآدم ، وإذا كانت من الكبر ، فلا ترجه ، كإبليس ، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله { أفتتخذونه } يريد أفتتخذون إبليس ، وقوله { وذريته } ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل ، وذكر الطبري أن مجاهداً قال : ذرية إبليس الشيطان ، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق ، يضع رايته في كل سوق ، وتبن{[7829]} صاحب المصائب ، والأعور صاحب الربا ، ومسوط صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلاً ، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته ، وقد طول النقاش في هذا المعنى ، وجلب حكايات تبعد من الصحة ، فتركتها إيجازاً ، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء{[7830]} والوسوسة شيطاناً يسمى خنزت ، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره ، وقوله { وهم لكم عدو } أي أعداء ، فهو اسم جنس ، وقوله { بئس للظالمين بدلاً } أي بدل ولاية لله عز وجل بولاية إبليس وذريته ، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل ، وهذا هو نفس الظلم ، لأنه وضع الشيء في غير موضعه .
عطف على جملة { ويوم نسير الجيال } [ الكهف : 47 ] بتقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة ، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل ، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات ، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالاً نفسياً . وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم ، وهذا أيضاً تمهيد وتوطئة لقوله : { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم } الآية [ الكهف : 52 ] ، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم .
ولها أيضاً مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } [ الكهف : 28 ] ، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم ، ولأن في هذه القصة تذكيراً بأن الشيطان هو أصل الضلال ، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتِ الشيطان وأوليائه . ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } .
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن ، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر ، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره ، فذكرها في سورة البقرة ( مَثلاً ) إعلام بمبادىء الأمور ، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ ، وقس على ذلك .
وفَسق : تجاوز عن طاعته . وأصله قولهم : فسقت الرُّطبَة ، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازاً في التجاوز . قال أبو عبيدة . والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة . قال أبو عبيدة : « لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن » ، أي في هذه الآية ونحوها . ووافقه المبرد وابن الأعرابي . وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم ، وتقدم في سورة البقرة ( 26 ) عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين .
والأمر في قوله : { عن أمر ربه } بمعنى المأمور ، أي ترك وابتعد عما أمره الله به .
والعدول في قوله : { عن أمر ربه } إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه .
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع ، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلاً لأن يُتبع .
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين ، إذ كانوا يعبدون الجن ، قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] . ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة { وهم لكم عدو } .
والذرية : النسل ، وذرية الشيطان الشياطين والجن .
والعدو : اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] وقال : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع ، وهما مصدران . وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .
والولي : من يُتولَّى ، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب . والمراد به القرب المعنوي ، وهو الصداقة والنسب والحلف . و ( من ) زايدة للتوكيد ، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي . وذلك هو إشراكهم في العبادة ، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله .
والخطاب في { أتتخذونه } وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه ولياً ، وتحذير للمسلمين من ذلك .
وجملة { بئس للظالمين بدلاً } مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء ، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته ، فقوله : { بدلاً } تمييز مفسر لاسم ( بئس ) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل .
والظالمون هم المشركون . وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم ، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم .